شاكرا دائما ، وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصا إذا كان تقيا ، فانه ينفعهما بدعائه وشفاعته (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي تقبله مني (وَأَدْخِلْنِي) في الجنة (بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [١٩] أي اجعلني معهم فيها ، فوقف سليمان وجنوده بمكانهم ليدخل النمل مساكنهم ثم مضى بهم.
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))
(وَتَفَقَّدَ) أي سليمان (الطَّيْرَ) والتفقد عدم الوجدان بعد الطلب ، أي تطلب جملة الطير ليرى الهدهد الذي هو رئيس الهداهد فلم يره فيهم (فَقالَ ما لِيَ) بسكون الياء وفتحها (١)(لا أَرَى الْهُدْهُدَ) في جملة الطير ثم أدركه الشك في غيبته فقال (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) [٢٠] والميم صلة أو (أَمْ) بمعنى بل ، لأنه لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك ، فلما تحقق غيبته قال والله (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بنتف ريشه وذنبه وحبسه مع ضده ورميه في الشمس ، فلا يمتنع عن الهوام ، وإنما جاز له تعذيب الهدهد لأنه إذا سخر له الطير والتسخير لا يتم إلا بالتأديب والسياسة باذن الله تعالى (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) أي لأقتلنه كيلا يبقى له نسل (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [٢١] أي برهان ظاهر على عذره ، قرئ بنون واحدة مع التشديد للتأكيد في القسم ، وبنون الإضافة معها ففيه ثلاث نونات في الحقيقة (٢) ، قيل : كيف صح حلفه على فعل الهدهد من أين علم أنه يأتي بسلطان مبين؟ أجيب بأنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين (٣).
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣))
(فَمَكَثَ) بفتح الكاف وضمها (٤) ، أي أبطأ في غيبته وقتا يسيرا (غَيْرَ) زمان (بَعِيدٍ) ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ، وإنما طلبه سليمان لأن الهدهد كان قنقنه ، وهو الدليل الهادي والبصير بالماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة واسمه يعفور ، وكان سليمان عليهالسلام إذا احتاج إلى الماء دل الهدهد على موضع الماء فتجيء الشياطين فتستخرجونه له.
روي : أنا لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج بجنوده فأقام بمكة ما شاء ، ثم عزم إلى صنعاء فرأى مكانا أعحبته خضرته فنزل ليتغدى ويصلي الظهر في وقعتها ، فأمر الهدهد بأن يرتفع وينظر في طول السماء وعرضها ، فارتفع فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه واسمه عنقير ، فوصف له يعفور ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صحابه ملك بلقيس وعظمه ، وقال : ما أظن ملك سليمان أعظم من ملكها فهل أنت منطلق معي تنظر ملكها؟ فقال أخاف أن يفقدني سليمان وقت الصلوة إذا احتاج إلى الماء ، فقال يسر صاحبك أن تأتيه خبر هذه الملكة ، فانطلق معه فنظر ملكها فمكث لذلك ، وقد جاء وقت الصلوة وأراد سليمان أن يصلي الظهر فلم يجد ماء فطلب الهدهد ليدل على الماء ويستخرج الشياطين الماء من تحت الأرض فتفقده لذلك ، فقال لسيد الطير وهو العقاب علي به فارتفع فنظر ، فاذا هو مقبل فقصد به فقال بحق الذي قواك علي إلا رحمتني فتركه وقال إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال وما استثنى ، قال بلى إن لم تأت بسلطان مبين ، قال نجوت إذن فجاء العقاب سليمان بالهدهد ، فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان ، فأخذ برأسه وجذبه إليه بشدة وتهدده ، فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ولطف به خوفا من الله (٥).
__________________
(١) «مالي» : فتح الياء ابن كثير وهشام وعاصم والكسائي ، وأسكنها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.
(٢) «أَوْ لَيَأْتِيَنِّي» : قرأ المكي بنونين ، الأولى مفتوحة مشددة والثاني مكسورة مخففة ، وغيرهم بنون واحدة مكسورة مشددة. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.
(٣) نقله المؤلف عن الكشاف مختصرا ، ٤ / ١٩٥.
(٤) «فمكث» : فتح الكاف روح وعاصم ، وضمها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.
(٥) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٩٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦.