و (كُلِّ) هنا بمعنى التكثير لا للإحاطة (إِنَّ هذا) أي الذي ذكرناه من النعم الكثيرة التي أعطاناها الله تعالى (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [١٦] أي الظاهر على ما أعطي غيرنا وهو وارد على سبيل الشكر والثناء لا على سبيل الفخر.
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))
(وَحُشِرَ) أي جمع (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) في مسير كان له (فَهُمْ يُوزَعُونَ) [١٧] أي يساقون ويجمعون ، يعني يوقف ويمنع أولهم حتى يلحقهم آخرهم ليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة ، من الوزع وهو الكف ، قيل : إن سليمان يستعمل جنيا عليهم يرد أولهم إلى آخرهم هكذا عادة القوافل والعساكر ، وكان معسكره مائة فرسخ في فرسخ ، وكان له بساط من ذهب وفضة وإبريسم نسجت له الجن فرسخا في فرسخ وفي وسطه يوضع منبره من ذهب وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد هو والأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كرسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظلله الطير بأجنحتها لدفع حر الشمس عنه وترفع البساط ريح الصبا بأمره فتسير به مسيرة شهر ، وزيد في ملكه أنه لا يتكلم أحد إلا حملت الريح كلامه إليه ، فبينما يسير هو رآه وجنده حراث ، فقال أوتي آل داود ملكا عظيما فنزل ومشى إليه ، وقال له لا تتمن ما لا تقدر عليه والله لتسبيحه واحدة يتقبلها الله خير مما أوتي آل داود ويتعلق بالوزع (١).
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨))
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) هي بالطائف أو الشام كثيرة النمل ، وإنما عدي (أَتَوْا) ب (عَلى) لا ب «إلى» ، لأنهم لما أتوا قريبا من الوادي من فوق أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي فخافوا حطمهم ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي كانت ملكة النمل لما رأت جند سليمان (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) أي ثقوبكم ، وإنما جعل الله خطابهم خطاب العقلاء حيث لم يقل أدخلن لما سمع لها قول كقولهم ، قوله (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بالتشديد نهي مستأنف لأجل نون التأكيد ، لأن جواب الشرط لا يأتي بنون التأكيد إلا قليلا أو بدل من الأمر بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم على طريقة قولك لا أي أرينك هنا (٢) ، وأصل الحطم الكسر ، والمراد هنا الإهلاك ، أي لا يهلكنكم (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [١٨] بهلاككم ، قالته لما علمت إن سليمان ملك عادل لا بغي فيه ولا فخر ، ولئن علم بها لم توطأ وسمعه سليمان من ثلاثة أميال لرفع الريح صوتها إليه.
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) حال مقدرة ، لأن التبسم مبدأ الضحك ، أي تبسم شارعا في الضحك أو مؤكدة المعنى ضحك متعجبا (مِنْ قَوْلِها) وسببه شيئان (٣) دلالة قولها على ظهور رحمته وشفقة جنوده وسروره بما أعطاه الله من إدراكه لسمعه ما تكلم به الحكل ما لا يسمع له صوت من جنس الحيوان (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) وهو طلب التوفيق لزيادة العمل الصالح والتقوى والإيزاع من الوزع ، وهو الكف والربط ، أي اجعلني أزع شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وأربطه عندي لا ينفلت (٤) عني حتى أكون لك
__________________
(١) لعل المفسر اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٩١ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤.
(٢) أي لا تحضر هنا ، + و.
(٣) شيآن ، ح ي : شأن ، و؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٩٤.
(٤) لا بنفلت ، ح : يتفلت ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٩٤.