أي لا ينبغي أن يخافوا عندي ، لأنهم آمنون من عذابي ، وإنما خاف موسى لأنه ظن أن ذلك لأمر أريد به (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) أي لكن من ظلم من المرسلين نفسه بذنب صدر منه كآدم ويونس وداود وإخوة يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ، فانه خاف مني (ثُمَّ بَدَّلَ) أي فعل (حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي توبة بعد ذنب (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [١١] أغفر له وأرحمه.
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في جيب درعك ثم أخرجها (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ، قوله (فِي تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف متعلق بمحذوف (١) ، أي اذهب في تسع آيات (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) ويجوز أن يتعلق بما قبله بتقدير مرسلا إلى فرعون في تسع آيات ، ويجوز أن يكون «في» بمعنى (٢) مع فيكون الآيات إحدى عشرة ، اليد والعصا والتسع وهي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة على أموالهم والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [١٢] أي عاصين.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣))
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) أي جاءهم موسى بآياتنا التسع (مُبْصِرَةً) حال من الآيات ، أي ظاهرة بينة جعل الأبصار للآيات مجازا وهي في الحقيقة لمن يتأملها (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [١٣] أي بين.
(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))
(وَجَحَدُوا بِها) أي بالآيات بعد المعرفة ، قوله (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) بتقدير «قد» حال من ضمير (جَحَدُوا) ، أي لما جاءتهم آياتنا واضحات أنكروها حال كونهم مستيقنين صدقها وإنها من الله تعالى (ظُلْماً) أي شركا (وَعُلُوًّا) أي تكبرا عن الإيمان بموسى يتعلقان ب (جَحَدُوا) ، والاستيقان أبلغ من الإيقان (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [١٤] في الأرض بالكبر والمعاصي وكفران نعم الله تعالى بالجهل والغفلة عنه ، وهي الغرق في البحر.
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥))
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي طائفة من العلم وهو علم القضاء ومنطق الطير (وَقالا) قيل : الأوجه فقالا لقولهم أعطيته فشكر لكن فيه حذفا ، تقديره : آتيناهما علما فعملا به (٣) ، وقالا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بالنبوة والكتاب وتسخير الجن والإنس والشياطين وكلام الطير والبهائم والملك (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) [١٥] وهم الذين لم يؤتوا علما وعملا مثل عملهما ، وفي الآية دليل على شرف العلم ، وإنه من أجل النعم وإن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي نبوته وعلمه دون المال من بين بنيه وكانوا تسعة عشر ابنا (وَقالَ) أي نادى (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) وأراد بنون التكلم نفسه وأباه تشهيرا لنعمة الله واعترافا بها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم المنطق ، قيل : أعطي سليمان ما أعطي داود ، وزيد له تسخير الجن والريح وفهم نطق الطير (٤) ، والمنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وما علم سليمان من منطق الطير هو ما يفهم (٥) بعضه من بعض من معانيه وأغراضه (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي مما يؤتي الأنبياء والملوك ،
__________________
(١) بمحذوف ، وي : لمحذوف ، ح.
(٢) بمعنى ، و : معنى ، ح ي.
(٣) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٤ / ١٩٢.
(٤) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠.
(٥) يفهم ، ح : يفهمه ، وي.