الخشونة باللين والغضب بالحلم ، وقيل : هي كلمة الشهادة (١) أو الكف عنهم إذا بذلوا الجزية (٢) أو بالحجة القاطعة على توحيد الله (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بنصب الحرب ومنع الجزية وإثبات الشريك والولد لله تعالى ، فلا تناظروهم بالحسنى بل بالغلظة أو لا تناظروا الظالمين البتة بل مكنوا السيف منهم لفرط عنادهم فلا ينفعهم الرفق ، قوله (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي القرآن والتورية (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) وهو خالق كل شيء (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [٤٦] مخلصون بالتوحيد بيان للكلمة التي هي أحسن ، قيل : نزل حين قال بعض المسلمين يا رسول الله إن اليهود قد يقرؤون التورية بالعبرية ويفسرونها بالعربية أنصدقهم أم نكذبهم ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا «آمنا» إلى آخر الآية (٣) ، أي أخبروهم أنكم تؤمنون بالله وجميع كتبه وإنه ربنا وربكم ، قيل : نسخت هذه الآية مع ما قبلها بقوله (٤)(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٥).
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧))
(وَكَذلِكَ) أي مثل هذا الإنزال (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) مصدقا لسائر الكتب السماوية وهو تحقيق لقوله «وقولو آمنا» الآية (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي التورية كعبد الله بن سلام وأصحابه من قبل النبي عليهالسلام من أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من أهل مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي القرآن (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) [٤٧] مع ظهورها وزوال الشبهة عنها وهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ) يعني أنت أمي ، ما عرفك قط أحد بتلاوة كتاب ما (وَلا) خط (تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) وذكر اليمين وهي الجارحة التي يداول (٦) بها الخط لزيادة تصوير لنفي كونه كاتبا ألا يرى أنه يقال فلان يكتب بيمينه إذا أريد كونه متوليا للكتابة حقيقة (إِذاً لَارْتابَ) أي لشك (الْمُبْطِلُونَ) [٤٨] يعني لو كنت تعرف شيئا من القراءة والكتابة لارتاب مشركو مكة في نبوتك ولقالوا تعلمه من أحد أو كتبه بيده ، وإن النبي المبعوث (٧) عندنا لا يحسن الكتابة فليس هذا ، ومعنى كونهم مبطلين أنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب ، ولو لم يكن أميا لارتابوا أشد الريب ، فحين ليس بكتاب وقارئ فلا وجه لارتيابهم فيكونون قائلين بالبطلان.
(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))
(بَلْ هُوَ) أي القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) أي بينات الإعجاز يقينا (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) به ، أي حفظوه وعلموه ، وكونه معجزا محفوظا في الصدور من خصائص القرآن ، لأن من تقدم كانوا لا يقرؤون كتبهم إلا نظرا ، فاذا أطبقوه لم يعرفوا منه شيئا سوى الأنبياء ولم يكن معجزات (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الواضحة (إِلَّا الظَّالِمُونَ) [٤٩] أي المتوغلون في الظلم المكابرون وهم اليهود أو المشركون.
(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠))
(وَقالُوا لَوْ لا) أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ) مفردا (مِنْ رَبِّهِ) أي علامة (٨) منه تعالى كما أنزلت على من قبله من الآية ، وقرئ جمعا (٩)(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) نزل حين قالوا هلا نزل عليه آية على صدقه كالناقة والعصا
__________________
(١) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٢ / ٥٤٠.
(٢) لعل المصنف اختصره من البغوي ، ٤ / ٣٧٩.
(٣) عن أبي نملة الأنصاري ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٨٠.
(٤) عن قتادة ومقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٧٩ ؛ والكشاف ، ٤ / ٢٥٠ ؛ وانظر أيضا قتادة (كتاب الناسخ والمنسوخ) ٤٥ ؛ والنحاس ، ٢٠٥ ؛ هبة اللة بن سلامة ، ٧٣ ؛ وابن الجوزي ، ٤٧.
(٥) التوبة (٩) ، ٢٩.
(٦) يداول ، وي : تداول ، ح.
(٧) المبعوث ، ح : المنعوت ، وي.
(٨) علامة ، وي : العلامة ، ح.
(٩) «آيات» : قرأ ابن كثير وشعبة والأخوان وخلف بحذف الألف بعد الياء على الإفراد ، والباقون باثباتها على الجمع ورسمها بالتاء. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.