(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))
قوله (يَعْلَمُونَ) بدل من قوله (١)(لا يَعْلَمُونَ) ، وفي هذا الإبدال إيذان بأن لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) إيذان بأنهم منخدعون بظاهر الحيوة الدنيا ، يعني التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من ظواهرها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) أي عن عملها وهو باطن الحيوة الدنيا ، يعني ما يتزود منها إلى الآخرة كالإيمان والأعمال الصالحة (هُمْ غافِلُونَ) [٧] أي لاهون ، و (هُمْ) الأول مبتدأ ، و (غافِلُونَ) خبره ، و (هُمْ) الثاني تكرير للأول يفيد أنهم معدن الغفلة عن الآخرة.
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي ألم يحدثوا التفكر الصالح في قلوبهم الفارغة من الفكر فيكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرفا للتفكر أو المعنى : ألم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم وهم أعرف بأحوالها وما أودعت من غرائب الحكم الدالة على المطلوب منهم وعلى خالقهم فيكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) صلة للتفكر ، قوله (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) متعلق بالقول المحذوف ، تقديره : أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول ، وقيل : معناه فيعلموا ، لأن التفكر يدل عليه (٢)(إِلَّا بِالْحَقِّ) أي إلا ملتبسا بالحق ، يعني ما خلقها باطلا وعبثا بلا غرض صحيح وحكمة بالغة (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلا بأجل معلوم لا بد أن ينتهي الأشياء المذكورة إليه ، وهو قيام الساعة للحساب والثواب والعقاب ، يعني كلها ينعدم عنده (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) وهم الجاهلون بالله (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي بالبعث والجزاء (لَكافِرُونَ [٨] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ألم يسافروا في البلاد فيعتبروا آثار المهلكين من عاد وثمود وغيرهم من الآمم العاتية (٣).
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩))
ثم وصف لهم أحوالهم بأنهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي حرثوها (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي مما عمرها المكيون فأهلكوا ، فما الظن بأهل مكة وهم دونهم في القوة وفي دنياهم ، يعني هم (٤) في حال الضعف من قوة الجسد وقلة المال ، لأنهم أهل واد غير ذي زرع لا يثيرون أرضا ولا يعمرونها ليتباهوا وليستظهروا بذلك كما هو حال أهل الدنيا مع أمر الدهقنة (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي ما كان (٥) إهلاكه تعالى إياهم ظلما لهم ، لأن نعته العدل والظلم ينافيه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٩] حيث عملوا سبب إهلاكهم.
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))
(ثُمَّ كانَ) أي أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم كان (عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي أشركوا بوضع المظهر موضع المضمر ، أي عاقبتم (السُّواى) وهي جهنم التي هي أسوء العقوبات ، وهو تأنيث الأسوء وهو الأقبح ، قرئ «عاقبة» بالرفع اسم (كانَ) والخبر (السُّواى) بالنصب وبالعكس (٦) ، وعلل المعنى بقوله (٧)(أَنْ كَذَّبُوا) أي لأن
__________________
(١) قوله ، ح : ـ وي.
(٢) هذا المعنى منقول عن الكشاف ، ٥ / ٣.
(٣) العاتية ، وي : الغائية ، ح.
(٤) هم ، ح و : ـ ي.
(٥) كان ، ح : ـ وي.
(٦) «عاقبة» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان برفع التاء الفوقية ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٤٧.
(٧) وعلل المعنى بقوله ، وي : ـ ح.