المسلمون يا محمد إكراما لهم بمعنى نورثه لهم إلى يوم القيامة ، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ، أي خيارا عدلا للشهادة على غيرهم من الأمم (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو المجرم المرجاء لأمر الله ، وقدم ال (ظالِمٌ) للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهم قليل بالنسبة إليهم (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهو الذي سبق إلى الجنة بالأعمال الصالحة (بِإِذْنِ اللهِ) أي بتوفيقه وتيسيره وهم أقل من القليل (ذلِكَ) أي السبق بالخيرات (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [٣٢] من الله تعالى.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))
قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي هو السبق بالخيرات وهو سبب في نيل الثواب ، فنزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب وإلا لما جاز الإبدال منه ، لأنهما جنسان مختلفان وفي ذكر ثواب السابقين بعد التقسيم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر عليهما ، فليحذر المقتصد وليهلك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح قبل أن يحال بينهما وبينها ، ويجوز أن يكون (جَنَّاتُ) مبتدأ ، خبره (يَدْخُلُونَها) معلوما ومجهولا (١)(يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسون في الجنة من حليت المرأة فهي حال (مِنْ أَساوِرَ) مِنْ) فيه تبعيض ، وقوله (مِنْ ذَهَبٍ) بيان ، أي يحلون بعض أساور من ذهب (وَلُؤْلُؤاً) بالجر وبالنصب (٢) عطفا على محل (مِنْ أَساوِرَ) ، روي : أن ذلك الذهب يكون في صفاء اللؤلؤ (٣) هذه حليتهم (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي في الجنة (حَرِيرٌ) [٣٣] محرم على الرجال في الدنيا.
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤))
(وَقالُوا) بعد دخولهم الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وهو حزن المتقين من سوء العاقبة ، أي أزال عنا كل شيء يوجب الحزن لمعاد ومعاش كالنار والجوع وهم قوت من حلال وخوف الموت ووسوسة الشيطان وغير ذلك ، روي عن النبي عليهالسلام أنه قال (٤) : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» (٥) ، قوله (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [٣٤] يدل على أن أهل الجنة كثير والحسنات.
(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))
ثم وصف الله بوصف آخر فقال (الَّذِي أَحَلَّنا) أي أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الإقامة ، مفعول ثان ل (أَحَلَّنا) لا ظرف لكونها محدودة (مِنْ فَضْلِهِ) أي بكرمه وتفضله (لا يَمَسُّنا) أي لا يصيبنا (فِيها نَصَبٌ) أي تعب ومشقة (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [٣٥] أي إعياء وفتور ، وفيه زيادة مشقة لأنه نتيجة التعب.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦))
ثم بين حال الكافرين بتوحيد الله بقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) بالموت (فَيَمُوتُوا) جواب النفي ونصبه باضمار «أن» ، أي فلا يموتون ، فموتهم دخل في حكم النفي (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
__________________
(١) «يدخلونها» : قرأ البصري بضم الياء وفتح الخاء وغيره بفتح الياء وضم الخاء. البدور الزاهرة ، ٢٦٣.
(٢) «وَلُؤْلُؤاً» : قرأ المدنيان وعاصم بنصب الهمزة الأخيرة ، والباقون بجرها. البدور الزاهرة ، ٢٦٣.
(٣) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٨٥.
(٤) أنه قال ، ح : ـ وي.
(٥) انظر الكشاف ، ٥ / ٨٥. ذكر العجلوني نحوه في كشف الخفاء ، ٢ / ٢٢٢.