كلها وبأن التعاضد مما يصلحنا وإن هرون نعم الوزير ، فانه أكبر مني سنا وأفصح لسنا.
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨))
(قالَ) الله (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [٣٦] أي أعطيناك مطلوبك منا منة عليك (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) [٣٧] أي أكرمناك بكرامات قبل هذه المرة من غير أن تسألنا ، ثم بين ذلك بقوله (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) [٣٨] مناحا أو إلهاما في قلبها أو بارسال ملك إليها لا على وجه النبوة.
(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩))
(أَنِ اقْذِفِيهِ) تفسير لما يوحى بمعنى القول ، أي قلنا ألقي موسى (فِي التَّابُوتِ) فأخذت قطنا محلوجا ووضعته في التابوت وألقت فيه موسى وسددت عليه وأحكمته بالقير لئلا يدخل فيه الماء ، وكان يدخل نهر من النيل إلى دار فرعون (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أي اقذفي التابوت في النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) جانب البحر وجعل اليم كأنه ذو تمييز ، فأسند الإلقاء إليه ، لأن جريه بأمره تعالى ، والساحل من السحل ، لأنه يسحله الماء ، أي يقشره ويسحله (يَأْخُذْهُ) بالجزم جواب الأمر وهو فليلقه ، قيل : الأولى أن يرجع الضمائر كلها إلى موسى من رجوع بعضها إليه التابوت لما فيه قبح من تنافر النظم (١) الذي هو أم إعجاز القرآن ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر ، أي يأخذ موسى (عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهو فرعون فدخل التابوت من النيل في نهر كبير يجري منه إلى دار فرعون ، وكان جالسا مع امرأته على رأس البركة ، فاذا بتابوت يجيء به الماء نحو داره فأمر باخراجه ففتح التابوت ، فاذا فيه صبي أحسن الناس وجها ، فأخذه فرون وأحبه هو وامرأته حبا شديدا بحيث لا يصبران عنه ، ويصدقه قوله (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قوله (مِنِّي) يجوز أن يتعلق ب (أَلْقَيْتُ) ، فالمعنى : أني أحببتك ومن أحببته أحبته القلوب ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، أي محبة حاصلة مني بأن زرعتها في القلوب ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك ، وقيل : «كان في عينيه ملاحة ما رآها أحد إلا أحبه» (٢) ، قوله (وَلِتُصْنَعَ) عطف على مقدر ، أي لتحب ولتصنع ، يعني لتربي (عَلى عَيْنِي) [٣٩] أي على حفظي إياك في الأحوال كلها.
(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠))
قوله (إِذْ تَمْشِي) بدل من (إِذْ أَوْحَيْنا) ولا يمنعه اختلاف الوقتين وتباعدهما لا تساع الوقت ، وقيل : عامله (أَلْقَيْتُ) أو «تصنع» (٣)(أُخْتُكَ) أي مريم خرجت لتعرف خبره فجاءت إلى آل فرعون وكان لا يقبل ثدي مرضعة (فَتَقُولُ) أي فقالت لهم (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) من المراضع بأن تضمه إليها ويقبل ثديها ، قالوا : نعم ، من هي؟ قالت أمي ، قالوا لها لبن ، قالت نعم لبن أخي هرون فجاءت بها وقبل ثديها (فَرَجَعْناكَ) أي رددناك (إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تطيب نفسها بلقائك (وَلا تَحْزَنَ) أي ليزول حزنها (وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهي نفس القبطي فاغتممت خوفا من الله أو من اقتصاص فرعون (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) بأن غفرنا لك أو من غضبه وشره (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي ابتليناك واختبرناك ببلاء بعد بلاء وتخليصك منه ، الفتنة المحنة وكل ما شق على الإنسان وكل ما يبتلى (٤) الله به عباده فتنة ، والفتون مصدر كذلك وهو وقوع موسى في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، روي : أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون الواقع على موسى ، قال ولد في عام يقتل فيه الولدان فهذه فتنة يا ابن جبير وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله وقد قتل قبطيا وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق
__________________
(١) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٣٢.
(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ١٢.
(٣) نقله عن الكشاف ، ٤ / ٣٣.
(٤) يبتلى ، وي : يبتل ، ح.