قالوا فيه دليل على جواز رواية الأخبار بالمعنى ، إذ العبرة للمعنى دون اللفظ ، لأن الله تعالى حكى معنى واحدا بألفاظ مختلفة (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأشغال الشاقة ، ثم فسر رسالتهما بقوله (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) أي حجة على صدقنا وهي اليد والعصا (مِنْ رَبِّكَ) فلا تدع الربوبية برؤية الحجة ، إذ الرسالة لا تثبت إلا بحجة ظاهرة ، وإنما وحد «آية» وإن جاءا بآيتين ، لأنهما في حكم المفرد ، لأن الحجة انما تقوم بهما (وَالسَّلامُ) المنجي من سخط الله (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [٤٧] أي التوحيد.
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠))
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ) أي عذاب الآخرة على الدوام (عَلى مَنْ كَذَّبَ) بالتوحيد وبما جئنا به (وَتَوَلَّى) [٤٨] أي أعرض عنه (قالَ) فرعون (فَمَنْ رَبُّكُما) الذي أرسلكما إلي (يا مُوسى) [٤٩] خاطبهما أولا ثم خص موسى بالنداء ، لأنه هو الأصل في الرسالة وهرون تعابعه (قالَ) موسى (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) أي شكله الذي اقتضاه حكمته وطابق منفعته لا يشاركه فيه غيره كما أعطي العين الهيئة التي يطابق الأبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الأسماع ، وكذلك كل عضو من أعضاء كل حيوان يطابق بما علق به من المنفعة (ثُمَّ هَدى) [٥٠] أي ألهم كل شيء مصلحته كالأكل والشرب والجماع وغير ذلك مع كيفياتها وهو إيماء من موسى إلى الاستدلال على معرفة الله وربوبيته.
(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))
ثم قال موسى عن حال من مات من القرون الماضية بأن (قالَ فَما بالُ) أي حال (الْقُرُونِ الْأُولى) [٥١] أي الأمم الماضية مثل قوم نوح وعاد وثمود وهم كانوا عبدة الأوثان وجحدة البعث ، فأجاب بأن هذا سؤال عن الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله ، وذلك قوله (قالَ عِلْمُها) أي علم أحوال القرون (عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) أي مكتوب عنده في اللوح المحفوظ (لا يَضِلُّ رَبِّي) عن شيء ، أي لا يخطأه ولا يغيب عنه (وَلا يَنْسى) [٥٢] شيئا ما كالإنسان وغيره فيجازيهم بأعمالهم ، وقيل : إنما رد موسى علم ذلك إلى الله لأنه لم يعلم ذلك قبل نزول التورية ونزولها بعد هلاك فرعون وقومه (١).
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣))
ثم قال تعالى لمشركي المكة الرب الذي ذكره موسى لفرعون (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي ذا مهد لكم ولمصالحكم كالمهد للصبي ، ويجوز أن يكون الذي صفة «ربي» ، فيكون الوصف تعريفا لفرعون وقومه ، يعني ربي الذي جعل لكم الأرض قرارا ، أي موضع القرار والسكون ، قرئ «مهادا» (٢) ، أي فراشا (وَسَلَكَ) أي والذي سهل (لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا لتسلكوها (وَأَنْزَلَ) أي والذي أنزل (مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب للإيذان بأنه ملك مطاع يفعل ما يشاء لا أحدا ينازعه في فعله وحكمه ، أي نحن أنبتنا بالمطر (أَزْواجاً) أي أصنافا (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [٥٣] أي مختلفة جمع شتيت ، والنبات يعم الواحد والجمع ولذا قال «شتى» ، واختلاف النبات بالنفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للإنسان وبعضها يصلح لغيره من البهائم.
(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤))
(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي قائلين (كُلُوا) حال من ضمير «أخرجنا» ، والمعنى أخرجنا أصنافا من النبات
__________________
(١) أخذه المصنف عن البغوي ، ٤ / ١٦.
(٢) «مهدا» : قرأ الكوفيون بفتح الميم وإسكان الهاء ، والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٠٢.