(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يعود إليهم موسى (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي ابتليتم بعبادة العجل من الله فلا تعبدوه (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) يقينا (فَاتَّبِعُونِي) أي اتبعوا ديني (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [٩٠] الذي آمركم به (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ) أي لن نزال (عَلَيْهِ) أي على عبادته (عاكِفِينَ) أي مقيمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [٩١] فاعتزلهم هرون في اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل ، ولما جاءهم موسى (قالَ يا هارُونُ ما) أي أي شيء (مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) [٩٢] بعبادة العجل من (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) «لا» مزيدة فيه ، أي من أن تتبع أمري الذي أمرتك به من القيام بمصالحهم فتقاتلهم وتمنعهم من أن يضلوا عن سبيل الله وتلحق بي إذا عجزت عنهم (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [٩٣] أي خالفت وصيتي لك فأخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله يجره إليه.
(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦))
(قالَ) هرون لموسى (يَا بْنَ أُمَّ) بكسر الميم بنية الإضافة إلى الياء وبفتحها وحذف الألف (١)(لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي بشعر رأسي (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ) إذا ألقيت بينهم الحرب (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وتغضب علي ، أي جعلتهم فرقتين (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [٩٤] أي لم تنظر في أمري أو لم تنتظر قدومي ثم أقبل على السامري و (قالَ) لم عملته (فَما خَطْبُكَ) أي فما شأنك هذا وما كان مطلوبك منه أو ما الذي حملك على عمله (يا سامِرِيُّ [٩٥] قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بتاء الخطاب وعلمت ما لم تعلموا ، وقرئ بالياء (٢) ، يعني بني إسرائيل ، قال موسى : ما الذي رأيت؟ قال رأيت رسولا إليك على فرس الحيوة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي المرسل إليك وهو جبرائيل ليذهب بك إلى الطور عند تمام موعد الذهاب إليه للمناجاة ، وإنما لم يقل جبرائيل لأنه لم يعرف أن الرسول اسمه جبرائيل ، يعني أخذت من تراب أثر فرس المرسل إليك حين رأيته راكب فرس الحيوة ، وقلت أن له شأنا عظيما أقبض من تربة موطئه ، (فَقَبَضْتُ) «قبضة» بالفتح والضم اسم للمقبوض بالكف ، وبالصاد المهملة (٣) الأخذ بأطراف الأصابع (فَنَبَذْتُها) أي طرحتها في العجل المصاغ فحيي (وَكَذلِكَ) أي كما حدثتك (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) [٩٦] أي زينت فلا تلمني بفعلي ولمهم بعبادتهم العجل ، قيل : كيف رأي هو جبرائيل من بين سائر الناس؟ أجيب بأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيها البنون وضعته في كهف حذرا عليه فبعث الله جبرائيل ليربيه لأجل هذه الفتنة فعرفه حين رآه (٤).
(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧))
(قالَ) موسى له (فَاذْهَبْ) من بيننا مطرودا (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) أي في عمرك (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي لا يمسني أحد ولا أمس أحدا فكان يهيم في البرية لا يخالط الناس وكان إذا رأى أحدا قال لا تقربني وفر منه ، لأنه إذا مس أحدا أو مسه أحد حما كلاهما ، وروي : أن ذلك موجود في أولاده إلى الآن (٥) ، فكان ذلك أشد عقوبة له في الدنيا (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) لعذابك (لَنْ تُخْلَفَهُ) بضم التاء وكسر اللام من أخلف الموعد إذا غاب عنه ، وبفتح اللام (٦) ، أي تبعث إليه البتة ، المعنى : أن هذا لك في الدنيا ولك في الآخرة موعد لن تغيب عنه أو لن تؤخر عنه ، يعني يكافيك الله على ما فعلته ثمه ، والله لا يخلف الميعاد (وَانْظُرْ) يا سامري (إِلى إِلهِكَ) بزعمك (الَّذِي ظَلْتَ)
__________________
(١) «يبنؤم» : قرأ الشامي وشعبة والأخوان وخلف بكسر الميم ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.
(٢) «يبصروا» : قرأ الأخوان وخلف بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، البدور الزاهرة ، ٢٠٧.
(٣) قد أخذ المؤلف هذه القراءة عن الكشاف ، ٤ / ٤٤.
(٤) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢٨ ـ ٢٩.
(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٦) «تخلفه» : قرأ المكي والبصريان بكسر اللام ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.