قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ). وقرىء : (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).
قال ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار ، أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ؛ فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا ـ أعني السماء الدنيا ـ فكيف بما بعدها من السموات العلى؟ وما فوق ذلك من الأرتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عزوجل؟ وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ولهذا قال : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً).
وعند أهل الكتاب : أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه ضربوا (١) وأهينوا غاية الإهانة وأوذوا غاية الأذية. ولهذا قالوا لموسى : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ، قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط ، وكذلك وقع ، وذا من دلائل النبوة.
* * *
ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه. قال الله تعالى :
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ* يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ* مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ.)
[٤٠ / غافر : ٣٨ ـ ٤٠]
يدعوههم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد الحق ، وهي متابعة نبي الله موسى وتصديقه فيما جاء به من عند ربه ، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ، ورغبهم في طلب الثواب عند الله الذي لا يضيع عمل عامل لديه ، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه. الذي يعطي على القليل كثيرا ، ومن عدله لا يجازي على السيئة إلا مثلها ، وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار ، التي من وافاها ـ مؤمنا قد عمل الصالحات ـ فله الدرجات (٢) العاليات ، والغرف الآمنات ؛ والخيرات الكثيرة الفائقات ، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد ، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد.
ثم شرع في إبطال ما هم عليه ، وتخويفهم مما يصيرون إليه ، فقال : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ
__________________
(١) و : وإلا ضربوا.
(٢) م : فلهم الجنات العاليات.