مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ* وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) يعني بذلك حابستين غنمهما. فقال لهما :
(ما خَطْبُكُما) معتزلتين الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم.
فسقى لهما فجعل يغترف من الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى فاستظل بشجرة ، وقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).
واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعت. فلما كلمه : (قالَ : لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ليس لفرعون ولا لقومه علينا من سلطان لسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته وما أمانته؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني أمرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك. ثم قال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين. فسرى عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت.
فقال له : (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، ففعل فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت السنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا.
قال سعيد ـ وهو ابن جبير ـ لقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم ، فقال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت : لا ، وأنا يومئذ لا أدري. فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له ، فقال : أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة ، لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا؟ وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين. فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك اعلم منك بذلك ، قلت : أجل وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده : ما قص الله عليك في القرآن.
فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل (١) وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ، يكون له ردءا (٢) يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه. فآتاه الله عزوجل سؤله ، وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون فأمره أن يلقاه.
فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون ، فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما. ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) قال : (فَمَنْ رَبُّكُما؟) فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن. قال : فما تريدون؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت ، قال :
__________________
(١) و : في القتل.
(٢) و : يكون عنه ردءا.