فإن أزعجك الوهم أنّ وجوب الوجود وصف للوجود والوصف منفصل عن الموصوف ؛ فمن جعل وجوب الشّيء نفسه فقد تجاهل.
قيل لك : ألست تعتبر من الوجوب بالغير ، وهو الوجوب القائم بالشّيء. فالشّيء إذا أخذ بشرط وجوده يصير ممتنع العدم ، وما كان مانعا للعدم كان مانعا لإمكان العدم والوجود. فإذن ، الوجود بما هو وجود ممتنع الإمكان ، وما كان مانعا عن الإمكان لزمه الاستغناء عن المفيض.
فاعتبر من ذلك : أنّ الوجود بشرط التّجرّد عن الماهيّة أولى بالمنع عن الإمكان ؛ لأنّ الشّيء الّذي له اعتبار الإمكان إذا اخذ مع الوجود يدخل فى الوجوب ، فالذى لا اعتبار له إلاّ الوجود ، فهو بالوجوب أولى.
وأيضا ، الحقيقة المتقرّرة بالجاعل إذا اخذت من حيث هى متقرّرة بالجاعل كانت تحتفّ بالوجوب. فالّذى لا اعتبار له إلاّ أنّه الحقيقة الحقّة المتقرّرة بنفسه إذا نظر إليه بنفسه فهو بالوجوب أولى.
والصّحيح بالحقيقة أنّه هو الوجوب ، والوجوبات غيره أظلال الوجوب ؛ وهو الوجود ؛ والوجودات كلّها أظلال الوجود ؛ وهو العلم ، والعلوم كلّها أظلال العلم ؛ بل هو الحقيقة ، لا حقيقة سواه ، والحقائق كلّها أظلال الحقيقة.
ولا تقع لفظة الحقيقة على غيرها من الحقائق إلاّ بالمجاز الصّناعىّ بحسب لغة الحكمة الحقّة النّضيجة ، بل بحسب لغة الفلسفة المصحّحة المحصّلة أيضا على الحقيقة ؛ فإنّ إطلاقها على الحقيقة فى لغة الحكمة إنّما يكون على جاعل الحقائق وينبوع الإنيّات ـ جلّ شأنه ـ وإن صحّ أن يطلق فى لغة أهل اللّسان على طبيعة متحققة (٨٢) جاعلة أو مجعولة.