تعقّلي أن يتصوّر أنّ الغير القارّ بالذّات يكون مقدارا لطبيعة ثابتة.
فإذن ، قد انصرح لك أنّ وجود الزّمانيّات فى افق الزّمان ووجود الزّمان ومفارقات المادّة فى وعاء الدّهر ، لا فى الزّمان. والمبدأ القيّوم الواجب بالذّات سرمدىّ الوجود ومحيط بالجميع.
فإذن ، الموجودات : منها ما هو (١٣٩) زمانىّ الوجود ، ومنها ما هو آنيّ الوجود ، ومنها ما هو دهرىّ الوجود ، ومنها من هو سرمدىّ الوجود ، وهو بكلّ شيء محيط.
<٩> بسط وتشييد
إنّى لأعلم أنّ هذه العلوم الشّديدة الارتفاع عن أطوار هذه الأذهان الضّيّقة وإلف صحابة الوهم قد أعشى أبصار هذه القرائح المتغسّقة ، وأوقر آذان هذه العقول المتغيّقة (١). فلا بأس بالتّكوير عليك ، ولكن بشيء من عبارات شركائنا الّذين سبقونا بالصّناعة ليكون سبيلا للاحتجاج عليهم سيتلى عليك لنضج الحكمة.
قال معلّم الفلسفة المشّائيّة أرسطو طاليس فى كتاب أثولوجيا فى الميمر الثّامن (ص ١١٤) : «وينبغى لك أن تنفى عن وهمك كلّ كون بزمان إن كنت إنّما تريد أن تعلم كيف ابدعت الآنيّات الحقيّة الدّائمة الشّريفة من المبدع الأوّل ؛ لأنّها إنّما كوّنت منه بغير زمان ، وإنّما ابدعت إبداعا وفعلت فعلا ، ليس بينهما وبين المبدع متوسّط البتّة. فكيف يكون كونها بزمان ، وهى علّة الزّمان والأكوان الزّمانيّة [ونظامها وشرفها] ، فعلّة الزّمان لا تكون تحت الزّمان ، بل تكون بنوع أعلى وأرفع ، كنحو الظلّ من ذى الظلّ. ولذلك صار ذلك العالم محيطا بجميع الأشياء الّتي فى هذا العالم ، وهذه الصّور فى ذلك العالم من أوّلها إلى آخرها ، إلاّ أنّ هناك بنوع آخر أعلى وأرفع».
وقال فيه أيضا : «القيام هناك دائم بلا زمان ماض ولا آت. وذلك أنّ الآتى هناك
__________________
(١). تغيّق ، أى : تكلّف حكاية صوت الغراب ، أو تعوّد بعدم التّثبّت. من قولهم : غيق فى رأيه ، إذا اختلط ، فلم يثبت على رأيه. منه ، مدّ ظلّه.