ماتت إلّا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع فإذا أحسّوا بالموت كمنوا (١) في مواضع خفيّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتّى تفسد رائحة الهواء ويحدث الأمراض والوباء ، فانظر إلى هذا الّذي يخلص إليه الناس وعملوه بالتمثيل الأوَّل الّذي مثّل لهم كيف جعل طبعاً وادّكاراً في البهائم وغيرها ليسلم الناس من معرّة ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد .
توضيح : السرب ـ بالكسر ـ والسربة : القطيع من الظباء والقطا والخيل ونحوها والجمع أسراب . والمهاة : البقرة الوحشيّة والجمع مها . والوعل ـ بالفتح وككتف ـ : تيس الجبل والجمع : وعال ووعول . والاُيّل بضمّ الهمزة وكسره وفتح الياء المشدّدة وكسيّد : الذكر من الأوعال ، ويقال : هو الّذي يسمّى بالفارسيّة : « گوزن » والجمع أيائيل . والقانص : الصائد . وخلص إليه : وصل . والمراد بالتمثيل ما ذكره الله تعالى في قصّة قابيل . والمعرّة : الأذى .
فكّر يا مفضّل في الفطن الّتي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفاً من الله عزَّ وجلَّ لهم ، لئلّا يخلو من نعمه جلَّ وعزَّ أحد من خلقه لا بعقل ورويّة فإن الاُيّل يأكل الحيّات فيعطش عطشاً شديداً فيمتنع من شرب الماء خوفاً من أن يدبّ السمُّ في جسمه فيقتله ، ويقف على الغدير وهو مجهود عطشاً ، فيعجُّ عجيجاً عالياً ولا يشرب منه ولو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل الظماء الغالب خوفاً من المضرّة في الشرب ، وذلك ممّا لا يكاد الإنسان العاقل المميّز يضبطه من نفسه ؛ والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتّى يحسبه الطير ميّتاً فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها ؛ فمن أعان الثعلب العديم النطق والرويّة بهذه الحيلة إلّا من توكّل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه ؟ فإنّه لما كان الثعلب يضعف عن كثير ممّا يقوى على السباع من مساورة الصيد اُعين بالدهاء (٢) والفطنة والاحتيال لمعاشه ، والدُلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله و
________________________
(١) أي تواروا واختفوا .
(٢) الدهاء جودة الرأي والحذق ، المكر والاحتيال .