الحوافر والأخفاف ليقيها من الحفا ، إذ كانت لا أيدي لها ولا أكفَّ ولا أصابع مهيّأة للغزل والنسج فكفّوا بأن جعل كسوتهم في خلقتهم باقيةً عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها والاستبدال بها ، فأمّا الإنسان فإنّه ذو حيلة وكفّ مهيّأة للعمل فهو ينسج و يغزل ويتّخذ لنفسه الكسوة بها حالاً بعد حال ، وله في ذلك صلاح من جهات ؛ من ذلك : أنّه يشتغل بصنعة اللّباس عن العبث وما يخرجه إليه الكفاية ؛ ومنها : أنّه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ، ولبسها إذا شاء ؛ ومنها : أن يتّخذ لنفسه من الكسوة ضروباً لها جمال وروعة فيتلذّذ بلبسها وتبديلها . وكذلك يتّخذ بالرفق من الصنعة ضروباً من الخفاف والنعال يقي بها قدميه ، وفي ذلك معايش لمن يعمله من الناس ومكاسب يكون فيها معاشهم ، ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم ، فصار الشعر والوبر والصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة والأظلاف والحوافر ، والأخفاف مقام الحذاء .
بيان : قال الجوهريُّ : قال الكسائيُّ رجل حاف بيّن الحفوة والحفاء بالمدّ ، و هو الّذي يمشي بلا خفّ ولا نعل ، وقال : وأمّا الّذي حفي من كثرة المشي أي رقت قدمه أو حافره فإنّه حفٍّ بيّن الحفا مقصوراً ، وأحفاه غيره . انتهى . قوله عليهالسلام : و روعه من قولهم : راعني الشيء : أعجبني .
فكّر يا مفضّل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم ، فإنّهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم ، وإلّا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء ؟ وليست قليلةً فتخفى لقلّتها ؛ بل لو قال قائل : إنّها أكثر من الناس لصدق ، فاعتبر ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظبا والمها والحمير والوعول والأيائل وغير ذلك من الوحوش ، وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها ، وضروب الهوامّ والحشرات ودوابّ الأرض ، وكذلك أسراب الطير من الغربان (١) و القطا (٢) والإوزّ (٣) والكراكي (٤) والحمام وسباع الطير جميعاً وكلّها لا يرى منها شيءٌ إذا
________________________
(١) جمع الغراب .
(٢) جمع القطاة : طائر في حجم الحمام .
(٣) جمع الاوزّة : طائر مائيّ يقال له : الوزّة أيضاً .
(٤) جمع الكركى : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، قليل اللحم ، يأوى إلى الماء أحياناً .