والطيران فجعل كلّ شيء من خلقه مشاكلاً للأمر الّذي قدّر أن يكون عليه ثمَّ صار الطائر السائح في هذا الجوّ يقعد على بيضه فيحضنه اُسبوعاً ، وبعضها اُسبوعين ، وبعضها ثلاثة أسابيع حتّى يخرج الفرخ من البيضة ثمَّ يقبل عليه فيزقّه الريح لتتّسع حوصلته للغذاء ثمَّ يربّيه ويغذّيه بما يعيش به فمن كلّفه أن يلقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقرّ في حوصلته ويغذو به فراخه ؟ ولأيّ معنى يحتمل هذه المشقّة وليس بذي رويّة ولا تفكّر ؟ ولا يأمل في فراخه ما يأمل الإنسان في ولده من العزّ والرفد (١) وبقاء الذكر ؟ فهذا هو فعل (٢) يشهد بأنّه معطوف على فراخه ، لعلّه لا يعرفها ولا يفكّر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه لطفاً من الله تعالى ذكره .
انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ وليس لها بيض مجتمع ولا وكر (٣) موطى بل تنبعث وتنتفخ وتقوقى وتمتنع من الطعم حتّى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ فلمَ كان ذلك منها إلّا لإقامة النسل ؟ ومن أخذها بإقامة النسل ولا رويّة ولا تفكّر لولا أنّها مجبولة على ذلك ؟ .
اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المحّ الأصفر الخاثر ، والماء الأبيض الرقيق ، فبعضه لينتشر منه الفرخ ، وبعضه ليغذي به ، (٤) إلى أن تنقاب عنه البيضة ، وما في ذلك من التدبير فإنّه لو كان نشؤ الفرخ في تلك القشرة المستحصنة الّتي لا مساغ لشيء إليها لجعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها ، كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه .
فكّر في حوصلة الطائر وما قدِّر له ، فإنّ مسلك الطعم إلى القانصة (٥) ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلّا قليلاً قليلاً ، فلو كان الطائر لا يلقط حبّةً ثانيةً حتّى تصل الاُولى إلى القانصة لطال عليه ، ومتى كان يستوفي طعمه ؟ فإنّما يختلسه اختلاساً لشدّة الحذر ،
________________________
(١) الرفد : النصيب ، المعاونة .
(٢) وفي نسخة : فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه .
(٣) الوكر ـ بفتح الواو وسكون الكاف ـ : عش الطائر .
(٤) وفي نسخة : ليغتذى به .
(٥) القانصة للطير : كالمعدة للانسان .