أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير الّتي لا تخرج إلّا باللّيل كمثل البوم والهام (١) والخفّاش ؟ قلت : لا يا مولاي ، قال : إنَّ معاشها من ضروب وتنتشر في هذا الجوّ من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب ، وذلك أنّ هذه الضروب مبثوثة في الجوّ لا يخلو منها موضع واعتبر ذلك بأنّك إذا وضعت سراجاً باللّيل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذا شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كلّه إلّا من القرب ؟ .
فإن قال قائل : إنّه يأتي من الصحاري والبراري : قيل له : كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد ؟ وكيف يبصر من ذلك البعد سراجاً في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه ؟ مع أنّ هذه عياناً تتهافت على السراج (٢) من قرب فيدلّ ذلك على أنّها منتشرة في كلّ موضع من الجوّ ، فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوّت بها .
فانظر كيف وجّه الرزق لهذه الطيور الّتي لا تخرج إلّا باللّيل من هذه الضروب المنتشرة في الجوّ ؛ واعرف مع ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة الّتي عسى أن يظنَّ ظانٌّ أنّها فضل لا معنى له ؛ خلق الخفّاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع أقرب ، وذلك أنّه ذو اُذنين ناشزتين وأسنان ووبر (٣) وهو يلد ولاداً ويرضع ويبول ويمشي إذا مشى على أربع ، وكلُّ هذا خلاف صفة الطير ، ثمّ هو أيضاً ممّا يخرج باللّيل ويتقوَّت ممّا يسري في الجوّ من الفراش وما أشبهه ؛ وقد قال قائلون : إنّه لا طُعم للخفّاش ، وإنّ غذاءه من النسيم وحده ، وذلك يفسد ويبطل من جهتين : إحديهما خروج ما يخرج منه من الثفل والبول فإنّ هذا لا يكون من غير طُعم ، والاُخرى أنّه ذو أسنان ولو كان لا يطعم شيئاً لم يكن للأسنان فيه معنىً ، وليس في الخلقة شيء لا معنى له ؛ وأمّا المآرب فيه فمعروفة
________________________
(١) جمع الهامة : نوع من البوم الصغير ، تألف القبور والاماكن الخربة ، وتنظر من كل مكان أينما درت أدارت رأسها . وتسمى أيضا الصدى .
(٢) أي تساقط عليه وتتابع .
(٣) أضاف الدميري له خصيصتين ، وقال : يحيض ويطهر ، ويضحك كما يضحك الانسان .