فإن قال قائل : ولم صار بعض النجوم راتباً وبعضها منتقلاً ؟ قلنا : إنّها لو كانت كلّها راتبةً لبطلت الدلالات الّتي يستدلّ بها من تنقّل المنتقلة ومسيرها في كلّ برج من البروج ؛ كما قد يستدلّ على أشياء ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشمس والنجوم في منازلها ، ولو كانت كلّها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يوقف عليه لأنّه إنّما يوقف بمسير المنتقلة منها بتنقّلها في البروج الراتبة كما يستدلّ على سير السائر على الأرض بالمنازل الّتي يجتاز عليها ، ولو كان تنقّلها بحال واحدة لاختلط نظامها وبطلت المآرب فيها ، ولساغ لقائل أن يقول : إنّ كينونتها (١) على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة الّتي وصفنا ففي اختلاف سيرها وتصرّفها وما في ذلك من المآرب والمصلحة أبين دليل على العمد والتدبير فيها .
فكّر في هذه النجوم الّتي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها كمثل الثريّا والجوزاء والشِعريين وسهيل فإنّها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم تكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض اُمورها كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور والجوزاء إذا طلعت ، واحتجابها إذا احتجبت فصار ظهور كلّ واحد واحتجابه في وقت غير وقت الآخر لينتفع الناس بما يدلّ عليه كلّ واحد منها على حدته ، وكما جعلت الثريّا وأشباهها تظهر حيناً وتحجب حيناً لضرب من المصلحة كذلك جعلت بنات النعش ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة فإنّها بمنزلة الأعلام الّتي يهتدي بها الناس في البرّ والبحر للطرق المجهولة ، وذلك أنّها لا تغيب ولا تتوارى ؛ فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا وصار الأمران جميعاً على اختلافهما موجّهين نحو الإرب والمصلحة ، وفيهما مآرب اُخرى : علامات ودلالات على أوقات كثيرة من الأعمال كالزراعة والغراس والسفر في البرّ والبحر ؛ وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحرّ والبرد ، وبها يهتدي السائرون في ظلمة اللّيل لقطع القفار (٢)
________________________
(١) في نسخة : ان كينونيتها .
(٢) جمع القفر : الخلاء من الارض ، لا ماء فيه ولا ناس ولا كلاء .