الموحشة ، واللّجج الهائلة ، مع ما في تردّدها في كبد السماء (١) مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العبر فإنّها تسير أسرع السير وأحثّه .
أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منّا حتّى يتبيّن لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه ألم تكن ستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها ؟ (٢) كالّذي يحدث أحياناً من البروق إذا توالت واضطرمت في الجوّ ، وكذلك أيضاً لو أنّ اُناساً كانوا في قبّة مكلّلة بمصابيح تدور حولهم دوراناً حثيثاً لحارت أبصارهم (٣) حتّى يخرُّوا لوجوههم فانظر كيف قدّر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضرّ في الأبصار وتنكأ فيها ، وبأسرع السرعة لكيلا تتخلّف عن مقدار الحاجه في مسيرها ، وجعل فيها جزء يسير من الضوء ليسدّ مسدّ الأضواء إذا لم يكن قمر ، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف اللّيل ، وإن لم يكن شيء من الضوء يهتدي به لم يستطع أن يبرح مكانه فتأمّل اللّطف والحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة ومدّة لحاجة إليها ، وجعل خلالها شيء من الضوء للمآرب الّتي وصفنا .
فكّر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم تفي هذا الدوران الدائم بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف اللّيل والنهار ، وهذه الأزمان الأربعة المتوالية على الأرض ، وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالّذي بيّنت وشخّصت (٤) لك آنفاً ، وهل يخفى على ذي لبّ أنّ هذا تقدير مقدّر ، وصواب وحكمة من مقدّر حكيم ؟ .
فإن قال قائل : إنّ هذا شيء اتّفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب تراه يدور ويسقي حديقة فيها شجر ونبات ؟ فترى كلّ شيء من آلته مقدّراً بعضه يلقى بعضاً على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها وبمَ كان يثبت هذا القول لو قاله ؟ و ما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه ؛ أفينكر أن يقول في دولاب خشب (٥)
________________________
(١) أي وسط السماء .
(٢) أي ستذهب بها بتوقدها .
(٣) حارت العين : اشتد بياض بياضها وسواد سوادها .
(٤) وفي نسخة : كالذي بينت ولخصت لك آنفاً .
(٥) وفي نسخة : في دولاب خسيس .