الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اُصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤدّيه إلى الأغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالاُمّ المربّية لها ، وصارت اُصولها الّتي هي كالأفواه ملتقمة للأرض (١) لتنزع منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان اُمّهاتها .
ألا ترى إلى عمد الفساطيط والخيم كيف تمدّ بالأطناب من كلّ جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط ولا تميل فهكذا تجد النبات كلّه له عروق منتشرة في الأرض ممتدّة إلى كلّ جانب لتمسكه وتقيمه ، ولولا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف ، فانظر إلى حكمة الخلقة كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة الّتي تستعملها الصنّاع في ثبات الفساطيط والخيم متقدّمة في خلق الشجر لأنّ خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم ألا ترى عمدها وعيدانها من الشجر ؟ فالصناعة مأخوذة من الخلقة .
بيان : ينسفه بالكسر أي يقلعه . وبشم الحيوان بشماً من باب تعب : اتّخم من كثرة الأكل . والكدح : العمل والسعي . والشقا : الشدّة والعسر شقى كرضى . والدوح بفتح الدال وسكون الواو جمع الدوحة ، وهي الشجرة العظيمة .
تأمّل يا مفضّل خلق الورق فإنّك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها غلاظ ممتدّة في طولها وعرضها ، ومنها دقاق تتخلّل الغلاظ منسوجة نسجاً دقيقاً معجماً لو كان ممّا يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل ، ولاُحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيّام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلّها بلا حركة ولا كلام إلّا بالإرادة النافذة في كلّ شيء والأمر المطاع .
واعرف مع ذلك العلّة في تلك العروق الدقاق فإنّها جعلت تتخلّل الورقة بأسرها لتسقيها وتوصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كلّ جزء منها وفي الغلاظ منها معنىً آخر فإنّها تمسك الورقة بصلابتها ومتانتها لئلّا
________________________
(١) التقم الطعام : ابتلعه أوفى مهلة .