أشدَّ إنكار . قلت : فمن خلق القردة والخنازير إن كان الناس والنجوم خلقن أنفسهنّ ؟ فلا بدّ من أن تقول : إنّهنّ من خلق الناس ، أو خلقن أنفسهنّ ، أفتقول : إنّها من خلق الناس ؟ قال : لا . قلت : فلا بدّ من أن يكون لها خالق أو هي خلقت أنفسها ؛ فإن قلت : إنّها من خلق الناس أقررت أنَّ لها خالقاً ، فإن قلت : لا بدّ أن يكون لها خالق فقد صدقت وما أعرفنا به ، ولئن قلت : إنّهنّ خلقن أنفسهنّ فقد أعطيتني فوق ما طلبت منك من الإقرار بصانع . ثمَّ قلت : فأخبرني بعضهنّ قبل بعض خلقن أنفسهنّ أم كان ذلك في يوم واحد ؟ فإن قلت : بعضهنّ قبل بعض فأخبرني السماوات وما فيهنّ والنجوم قبل الأرض والإنس والذرّ خلقن أم بعد ذلك ؟ فإن قلت أنَّ الأرض قبل أفلا ترى قولك : إنَّ الأشياء لم تزل قد بطل حيث كانت السماء بعد الأرض ؟ .
قال : بلى ولكن أقول : معاً جميعاً خلقن . قلت : أفلا ترى أنّك قد أقررت أنّها لم تكن شيئاً قبل أن خلقن ، وقد أذهبت حجّتك في الأزليّة ؟ قال : إنّي لعلى حدّ وقوف ، ما أدري ما اُجيبك فيه لأنّي أعلم أنَّ الصانع إنّما سمّي صانعاً لصناعته ، والصناعة غير الصانع ، والصانع غير الصناعة لأنّه يقال للرجل : الباني لصناعته البناء ، والبناء غير الباني والباني غير البناء ، وكذلك الحارث غير الحرث والحرث غير الحارث . قلت : فأخبرني عن قولك : إنَّ الناس خلقوا أنفسهم فبكمالهم خلقوها أرواحهم وأجسادهم وصورهم وأنفاسهم أم خلق بعض ذلك غيرهم ؟ قال : بكمالهم لم يخلق ذلك ولا شيئاً منهم غيرهم .
قلت : فأخبرني الحياة أحبّ إليهم أم الموت ؟ قال : أو تشكُّ أنّه لا شيء أحبّ إليهم من الحياة ، ولا أبغض إليهم من الموت ؟ قلت فأخبرني من خلق الموت الّذي يخرج أنفسهم الّتي زعمت أنّهم خلقوها ؟ فإنّك لا تنكر أنَّ الموت غير الحياة ، وأنّه هو الّذي يذهب بالحياة . فإن قلت : إنَّ الّذي خلق الموت غيرهم ، فإنَّ الّذي خلق الموت هو الّذي خلق الحياة ؛ ولئن قلت : هم الّذين خلقوا الموت لأنفسهم أن هذا لمحال من القول ! وكيف خلقوا لأنفسهم ما يكرهون إن كانوا كما زعمت خلقوا أنفسهم ؟ هذا ما يستنكر من ضلالك أن تزعم أنَّ الناس قدروا على خلق أنفسهم بكمالهم وأنَّ الحياة أحبّ إليهم من الموت وخلقوا ما يكرهون لأنفسهم ! .