عمره مكفيّاً لا يحتاج إلى شيء ؟ وكان من صواب التدبير في هذه الأشياء الّتي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة ولتكفّه عن تعاطي ما لا يناله ولا خير فيه إن ناله .
واعلم يا مفضّل أنَّ رأس معاش الإنسان وحياته الخبز والماء ، فانظر كيف دبّر الأمر فيهما ، فإنَّ حاجة الإنسان إلى الماء أشدُّ من حاجته إلى الخبز ؛ وذلك أنَّ صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش ، والّذي يحتاج إليه من الماء أكثر ممّا يحتاج إليه من الخبز ؛ لأنّه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغُسله وغَسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه ، فجعل الماء مبذولاً لا يشترى لتسقط عن الإنسان المؤونة في طلبه وتكلّفه ، وجعل الخبز متعذّراً لا ينال إلّا بالحيلة والحركة ليكون للإنسان المؤونة في ذلك شغل يكفّه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والعبث ؛ ألا ترى أنَّ الصبيَّ يدفع إلى المؤدِّب وهو طفل لم يكمل ذاته للتعليم كلُّ ذلك ليشتغل عن اللّعب والعبث اللّذين ربّما جنيا عليه وعلى أهله المكروه العظيم ، وهكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر والعبث والبطر إلى ما يعظم ضرره عليه وعلى من قرب منه ، واعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة ورفاهيّة العيش والترفّه والكفاية وما يخرجه ذلك إليه .
اعتبر لمَ لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما يتشابه الوحوش والطير وغير ذلك ؟ (١) فإنّك ترى السرب من الظباء والقطا (٢) تتشابه حتّى لا يفرَّق بين واحد منها وبين الاُخرى ، وترى الناس مختلفةً صورهم وخلقهم حتّى لا يكاد إثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة ، والعلّة في ذلك أنَّ الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كلّ واحد منها بعينه وحليته ، ألا ترى أنَّ التشابه في الطير والوحش لا يضرُّهما شيئاً ، وليس كذلك الإنسان فإنّه ربَّما تشابه التوأمان تشابهاً شديداً فتعظم المؤونة على الناس في معاملتهما
________________________
(١) المراد بالتشابه التشابه العرفي كما يدل عليه بيانه الاتي ، وأما التشابه الحقيقي فليس منه أثر لا في الانسان ولا في غيره وقد قام عليه البرهان وساعده التجارب العلمي . ط
(٢) السرب ـ بكسر السين وسكون الراء ـ : القطيع من الظباء والطير وغيرها . والقطا جمع للقطاة : طائر في حجم الحمام .