فكّر في هذه الأشياء الّتي تراها موجودةً معدّةً في العالم من مآربهم ، فالتراب للبناء ، والحديد للصناعات ، والخشب للسفن وغيرها ، والحجارة للأرحاء (١) وغيرها ، والنحاس للأواني ، والذهب والفضّة للمعاملة ، والجوهر للذخيرة ، والحبوب للغذاء ، والثمار للتفكّه ، واللّحم للمأكل ، والطيب للتلذّذ ، والأدوية للتصحيح ، والدوابُّ للحمولة ، والحطب للتوقّد ، والرماد للكلس ، والرمل للأرض ، وكم عسى أن يحصي المحصي من هذا وشبهه ، أرأيت لوأنَّ داخلاً دخل داراً فنظر إلى خزائن مملوَّة من كلّ ما يحتاج إليه الناس ورأى كلّ ما فيها مجموعاً معدّاً الأسباب معروفة لكان يتوهّم أنَّ مثل هذا يكون بالإهمال ومن غير عمد ؟ فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا في العالم وما اُعدّ فيه من هذه الأشياء .
بيان : التفكّه : التنعّم . الكلس بالكسر : الصاروج . قوله عليهالسلام : للأرض أي لفرشها .
اعتبر يا مفضّل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان وما فيها من التدبير فإنّه خلق له الحبّ لطعامه ، وكلّف طحنه وعجنه وخبزه ، وخلق له الوبر (٢) لكسوته فكلّف ندفه وغزله ونسجه ، وخلق له الشجر فكلّف غرسها وسقيها والقيام عليها ، وخلقت له العقاقير لأدويته فكلّف لقطها وخلطها وصنعها ؛ وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال ، فانظر كيف كفي الخلقة الّتي لم يكن عنده فيها حيلة وترك عليه في كلّ شيء من الأشياء موضع عمل وحركة لما له في ذلك من الصلاح ؛ لأنّه لو كفي هذا كلّه حتّى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل لما حملته الأرض أشراً وبطراً ، ولبلغ به كذلك إلى أن يتعاطي اُموراً فيها تلف نفسه ، ولو كفي الناس كلّ ما يحتاجون إليه لما تهنّؤوا بالعيش ولا وجدوا له لذّةً ؛ ألا ترى لو أنَّ امرءاً نزل بقوم فأقام حيناً بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و مشرب وخدمة لتبرّم (٣) بالفراغ ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء ؟ فكيف لو كان طول
________________________
(١) جمع للرحى وهي الطاحون .
(٢) الوبر للابل والارانب ونحوها كالصوف للغنم .
(٣) أي لتضجّر .