الله تعالى من العمل بخلافها ، وقال قوم : إن هذه الآية منسوخة بقوله : « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » ورووا في ذلك خبرا ضعيفا ، وهذا لا يصح لان تكليف ما ليس في الوسع غير جائز فكيف ينسخ؟ وإنما المراد بالآية ما يتناوله الامر والنهي من الاعتقادات والارادات وغير ذلك مما هو مستور عنا ، وأما مالايدخل في التكليف من الوساوس والهواجس مما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر فهو خارج عنه لدلالة العقل ، ولقوله صلىاللهعليهوآله : وتجوز لهذه الامة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها ، فعلى هذا يجوز أن تكون الآية الثانية بينت الاولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه وظن أن ما يخطر بالبال وتتحدث به النفس مما لا يتعلق به التكليف فإن الله يؤاخذه به ، والامر بخلاف ذلك ، وقوله : « فيغفر لمن يشاء » منهم رحمة وتفضلا « ويعذب من يشاء » منهم ممن استحق العقاب عدلا (١) « والله على كل شئ قدير » من المغفرة و الغذاب عن ابن عباس ولفظ الآية عام في جميع الاشياء ، والقول فيما يخطر بالبال من المعاصي أن الله سبحانه لا يؤاخذ به وإنما يؤاخذ بما يعزم الانسان ويعقد قلبه عليه مع إمكان التحفظ عنه ، فيصير من أفعال القلب فيجازيه كما يجازيه على أفعال الجوارح ، وإنما يجازيه جزاء العزم لا جزاء عين تلك المعصية ، (٢) لانه لم يباشرها ، وهذا بخلاف العزم على الطاعة فإنه يجازي على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة ، كما جاء في الاخبار : إن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها ، وهذا من لطائف نعم الله على عباده.
وفي قوله عزوجل : « وما من دابة في الارض » أي ما من حيوان يمشي على وجه الارض « ولا طائر يطير بجناحيه » جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات ، وإنما قال : يطير بجناحيه للتأكيد ورفع اللبس لان القائل قد يقول : طر في حاجتي أي اسرع فيها ، « إلا امم » أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير « أمثالكم » قيل : إنه يريد : أشباهكم في إبداع الله إياها وخلقه لها ودلالتها على أن لها صانعا ، وقيل : إنما مثلت الامم من غير الناس بالناس في الحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم
____________________
(١) في التفسير المطبوع : ممن يستحق العقاب عقلا.
(٢) فيه نظر وتأمل وقد فصل الكلام في ذلك في محله.