وحينئذ يحكم العقل باختيار المحذور الثاني ؛ لأنّه أهون وأخفّ مئونة من المحذور الأوّل ، فيحكم العقل بوجوب تخليص نفسه من المغصوب ولو بارتكاب الخروج المحرّم ، فيكون مضطرّا إلى ارتكاب الفرد المحرّم ولكن ، لمّا كان هذا الاضطرار ناشئا عن سوء اختياره ؛ لأنّه هو الذي أوقع نفسه في ذلك بسبب دخوله الأرض المغصوبة باختياره فسوف تسقط حرمته خطابا بسبب الاضطرار ولكن تبقى الحرمة عقابا وإدانة.
وتكون النتيجة النهائيّة هي سقوط الحرمة عن الخروج تكليفا ، فقد تقدّم أنّ التكليف بتخليص نفسه وهو الواجب النفسي قد سقط تكليفا أيضا ، والخروج نفسه لا يشمله الوجوب الغيري من أوّل الأمر لكونه أحد فردي المقدّمة المتّصف بالحرمة ، فيكون الوجوب الغيري منصرفا عنه ، والمفروض أيضا سقوط حرمة الغصب فعلا بعد الدخول لصيرورته مضطرّا إلى الغصب.
وهذا معناه أنّ كلّ التكاليف وهي أربعة ساقطة تكليفا أي عن الفعليّة ، ولكنّها ثابتة بروحها أي من حيث استتباعها للإدانة والعقوبة.
وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث يحلّ المشكلة ؛ لأنّ جميع التكاليف ساقطة ، فالخروج لا يتّصف لا بالوجوب ولا بالحرمة ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله وإن وجب عليه بحكم العقل لكونه أهون المحذورين ، فيكون حكم الخروج هو كونه واجبا بحكم العقل من باب أهون المحذورين من دون أن يتّصف بالوجوب أو الحرمة شرعا ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله ؛ لأنّه كان بسوء اختياره.
وفي كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لا يختلف الحال في ذلك بين الأمر والنهي النفسيّين أو الغيريين أو الغيري مع النفسي ؛ لأنّ ملاك الامتناع مشترك ، فكما لا يمكن أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا لنفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون محبوبا لغيره ومبغوضا لنفسه مثلا ؛ لأنّ الحبّ والبغض متنافيان بسائر أنحائهما.
ونحن وإن كنّا ذهبنا إلى إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والحكم ولكنّا اعترفنا به في مرحلة المبادئ ، وهذا كاف في تحقيق ملاك الامتناع ؛ لأنّ نكتة الامتناع تنشأ من ناحية المبادئ وليست قائمة بالوجود الجعلي للحكمين.