والاعتراض الآخر : أنّ أدلّة البراءة تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكميّة ليست مشكوكات بدوية ، بل هي مقرونة بالعلم بالإجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنة في مجموع تلك الشبهات.
الاعتراض الثاني : أنّ البراءة كما سيأتي مختصّة في موارد الشكّ البدوي لا الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، فمثلا إذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان شكّا بدويّا ، بينما إذا شكّ في نجاسة أحد هذين الإناءين فهذا شكّ مقرون بالعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما المردّدة بينهما ، والبراءة تجري في الأوّل دون الثاني.
إلاّ أنّه في الشبهات الحكميّة عموما يوجد علم إجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة هذه الشبهات ، وهذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجّزيّته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، فيمتثل لما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته.
ودائرة هذا العلم الإجمالي هو مجموع الشبهات المشكوكة ، فإنّنا إذا لاحظنا هذه الشبهات بمجموعها سوف يحصل لنا العلم بوجود تكاليف إلزاميّة وجوبيّة أو تحريميّة فيها ، ولكنّها ليست معلومة تفصيلا ، وهذا العلم الإجمالي ينجّز لنا كلّ الأطراف فيكون الحكم هو الاحتياط العقلي بالامتثال أو الترك لما يحتمل وجوبه أو حرمته.
أمّا الاعتراض الأوّل فنلاحظ عليه عدّة نقاط :
الأولى : أنّ ما استدلّ به على وجوب الاحتياط ليس تامّا ، كما يظهر باستعراض الروايات التي ادّعيت دلالتها على ذلك ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) استعراض عدد مهمّ منها مع مناقشة دلالتها ، نعم جملة منها تدلّ على الترغيب والحثّ عليه ، ولا كلام في ذلك.
أمّا الاعتراض الأوّل فيرد عليه عدّة نقاط :
الأولى : أنّ هذه الأدلّة التي ادّعيت دلالتها على وجوب الاحتياط ليست تامّة كما تقدّم ذلك سابقا في الحلقة الثانية ، حيث استعرضنا هناك تلك الأدلّة وقلنا : إنّ بعضها غير تامّ السند ، وبعضها غير تامّ الدلالة على الوجوب ، نعم بعض تلك الأدلّة يدلّ على
__________________
(١) في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.