الاشتغال التي مفادها أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، أي ما دام المكلّف يعلم أنّ ذمّته مشغولة بالصلاة أو التصدّق يقينا فعليه أن يعلم بفراغها من ذلك يقينا ، ولا يكفي البراءة الاحتماليّة والفراغ غير اليقيني.
وهذا يعني أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف لا في الامتثال.
والوجه في هذا الضابط هو :
وهذا واضح على مسلكنا المتقدّم (١) القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل من أسباب انتهاء فاعليّته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال شكّا في فعليّة التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.
المناط في هذا الضابط : أمّا أنّ الشكّ في الامتثال ليس من الشكّ في التكليف فلأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ليكون الشكّ فيهما شكّا في التكليف ، وإنّما هما من مسقطات فاعليّة التكليف ، بناء على ما هو الصحيح والمختار ، وعليه فموضوع البراءة وهو الشكّ في التكليف منتف ، فلا تجري البراءة لانتفاء موضوعها.
وتوضيح ذلك : أنّ التكليف ينشأ من وجود ملاك ومبادئ ، فالوجوب مثلا فيه مصلحة ملزمة أكيدة وفيه محبوبيّة وشوق مولوي ، فإذا قال المولى : ( يجب أكرم العالم ) كان الوجوب ثابتا لثبوت الملاك والمبادئ فيجب على المكلّف الامتثال تحقيقا لحقّ الطاعة الواجب عليه ، فإذا امتثله سقطت فاعليّة التكليف ومحرّكيّته إلا أنّ التكليف نفسه لا يسقط لبقاء المصلحة والمحبوبيّة والشوق في إكرام العالم ، وهكذا الحال في عصيانه.
وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إذا امتثل فقد حقّق المحبوب ، وتحقّق المحبوب لا يعني انتفاء الحبّ أصلا بل هو باق على حاله.
وعليه ، فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في تحقّق المحبوب للمولى بعد الفراغ عن وجود وبقاء هذا الحبّ والشوق المولوي اللذين هما قوام الوجوب.
ولا يمكن أن يكون الامتثال أو العصيان من مسقطات التكليف ؛ لأنّ لازم ذلك كونهما دخيلين في الملاك والمبادئ ، وهذا يعني أنّ وجوب الإكرام للعالم مقيّد بامتثال
__________________
(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.