وتوضيح ذلك : أنّ حكم العقل بحسن الصدق والعدل وقبح الظلم والكذب ممّا يستقلّ العقل به ؛ لأنّه يدرك المصلحة الموجودة في الصدق والعدل والأمانة من جميع الجهات ويحكم بحسنها ، ويدرك المفسدة في الظلم والكذب والخيانة ويحكم بقبحها.
وهذا يعني أنّ المصلحة والمفسدة ثابتتان ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بالوجوب في موارد المصلحة وبالحرمة في موارد المفسدة ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، والمفروض أنّها ثابتة لإدراك العقل لها ، فمثل هذا الحكم العقلي يستلزم الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة علل الأحكام أي أنّه ينقّح العلّة للحكم بالوجوب ، وهي المصلحة وينقّح العلّة للحكم بالحرمة وهي المفسدة.
وأمّا الحكم العقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بحسن الطاعة بعد فرض ثبوت حكم شرعي بالوجوب في مرحلة سابقة ، وهكذا لحكمه بقبح المعصية فإنّه مرتبط بثبوت حكم شرعي بالحرمة أوّلا.
فإذا كان هناك وجوب للصلاة حكم العقل بحسن الطاعة والامتثال ، وإذا كان هناك حرمة لشرب الخمر حكم العقل بقبح المخالفة والعصيان ، إلا أنّ حكم العقل هذا لا يلزم منه وجود حكم شرعي آخر بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي بدوره سوف يحكم العقل بحسن إطاعته وقبح معصيته فيلزم ثبوت حكم شرعي على وفقهما وهكذا ، فيلزم التسلسل المستحيل.
وبهذا ظهر أنّ الحكم العقلي إذا كان واقعا في سلسلة علل الأحكام فهناك ملازمة بينه وبين حكم الشارع على طبقه ، وإن كان واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لاستلزامه التسلسل الباطل.
ومقامنا من قبيل الثاني ؛ لأنّ حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، إذ حكم العقل بالاحتياط فرع ثبوت حكم شرعي في مرحلة سابقة واقعا ، فهذا الحكم العقلي معلول لوجود الحكم الشرعي ، وليس علّة له ، وحينئذ يستحيل أن يحكم الشارع باستحباب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الحكم سوف يستتبعه حكم عقلي آخر وهو يستلزم حكم شرعي وهكذا يتسلسل.