والوجه في ذلك أنّ المانع الثاني عارض وليس أصليّا ولذلك كان الغرض اللزومي باقيا على أهمّيّته عقلائيّا ، ولا يتقدّم عليه الغرض الترخيصي عندهم حتّى لو طرأ هذا العارض والمانع.
وأمّا المانع الأوّل أي كثرة الأطراف فهو دخيل في تركيب الشبهة ، أي أنّ العلم الإجمالي انصبّ على هذه الشبهة ، أو أنّ هذه الشبهة حصلت بعد العلم ، لكن أصل الشبهة هي الأطراف الكثيرة ، فالكثرة دخيل في الذات والماهيّة.
وعليه ، فالعقلاء إذا لاحظوا هذه الشبهة مع كثرة أفرادها وجدوا أنّه يدور الأمر بين رفع اليد عن كلّ هذه الأطراف والاحتياط وعدم ارتكاب شيء منها مقابل الحفاظ على غرض لزومي واحد ، وبين رفع اليد عن هذا الغرض اللزومي الواحد وتقديم الأغراض الترخيصيّة الكثيرة جدّا بعدد الأطراف ، ولا إشكال عندهم في تقديم الأغراض الترخيصيّة البالغة هذا الحدّ من الكثرة على الغرض اللزومي الواحد ، ولا يرون أهمّيّة لهذا الغرض ؛ لأنّ الحفاظ عليه يعني ترك الحفاظ على أغراض ترخيصيّة كثيرة جدّا ، فالبناء العقلائي والسيرة العقلائيّة جارية فعلا على أنّه إذا دار الأمر في وجود قاطع الطريق في أحد الطرق الألف ، أو وجود أسد في أحد هذه المائة ألف طريق ، فإنّهم لا يمتنعون عن الجميع ، بل لا يرون من يفعل ذلك عاقلا وحكيما ، وهذا البناء العقلائي يشهد له قوله ( عليهالسلام ) : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين » (١).
وحيث إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة كان هو المرتكز العقلائي الحاكم بأنّ الأغراض اللزوميّة أهمّ من الأغراض الترخيصيّة ، فهنا يوجد مرتكز عقلائي آخر وهو أنّ الأغراض الترخيصيّة هي الأهمّ من الأغراض اللزوميّة.
ومن الواضح أنّ المرتكزات العقلائيّة لا تبتني على التعبّد المحض ، وإنّما من أجل الحيثيّة الكاشفة في كلّ أصل وقاعدة ، وهذا يفرض علينا الجمع بين هذين الارتكازين ، بأن نقول : إنّ تقديم الأغراض اللزوميّة عندهم إنّما يكون في الشبهات المحصورة ، وأمّا تقديم الأغراض الترخيصيّة فيكون في الشبهة غير المحصورة ، فيكون هناك ارتكازان عقلائيّان لكلّ واحد منهما مورده وحيثيّة كشفه الخاصّة به.
__________________
(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٥.