مضافا إلى أنّ لسان الآية هنا هو أنّه مع عدم الإيتاء فلا كلفة ولا إدانة ، والإيتاء هنا ليس بمعنى الإتيان من الشارع بما هو شارع ليقال باختصاصه بالحكم ؛ لأنّه هو الذي يأتي من الشارع.
بل الإيتاء هنا هو الإيتاء التكويني ؛ لأنّ مورد الآية هو المال وإيتاء المال يعني رزقه للعبد في الخارج ، فلا يمكن أن يكون الإيتاء التكويني خارجا ؛ لأنّه القدر المتيقّن من الإيتاء في الآية.
وعليه ، فإمّا أن يكون المراد مطلق الإيتاء الشامل للتكويني والتشريعي ، وإمّا أن يكون خصوص الإيتاء التكويني ، ولا يمكن تخصيصها بالإيتاء التشريعي فقط ؛ لأنّ هذا بخلاف ظاهر الآية وموردها.
كما أنّ الظاهر عدم الإطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ؛ لأنّ إيتاء التكليف تكفي فيه عرفا مرتبة من الوصول ، وهي الوصول إلى مظانّ العثور بالفحص.
البحث الرابع : في اختصاص جريان البراءة بعد الفحص.
قد يقال : إنّ الآية مطلقة فهي تنفي الكلفة عند عدم إيتاء التكليف ، وهذا شامل لما إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم ولما إذا لم يفحص عنه.
إلا أنّ هذا الإطلاق يجب رفع اليد عنه ؛ وذلك لأنّ الإيتاء ليس معناه الإيصال المباشر للحكم ، بل معناه تشريع الحكم وإيصاله للمكلّف بنحو من أنحاء الوصول ، بأن يجعل في مظانّ العثور عليه كالكتاب والسنّة.
وهذا يعني أنّ المكلّف مطالب بالبحث عن التكليف في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فإذا وجده كان التكليف قد أتاه من الشارع ، وإن لم يجده فيتحقّق عدم الإيتاء.
وبتعبير آخر : أنّ العرف يرى أنّ الإيتاء الذي هو الوصول يكفي فيه مرتبة من مراتب الوصول والتي منها إيتاء التكليف في مصادره ومظانّه ، فتختصّ البراءة بعد الفحص.
ومنها : قوله سبحانه وتعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(١).
وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة ( رسول ) على المثال للبيان.
الآية الثانية قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإنّ مفادها نفي
__________________
(١) الإسراء : ١٥.