الدنيوي عن الأمم السابقة قبل بعث الرسل ، بمعنى أنّ الله لا يعذّب في الدنيا الناس قبل أن يبعث الرسل كما هو حال فرعون مثلا.
وهذا المعنى أجنبي عن محلّ الكلام ؛ لأنّ كلامنا في العذاب الأخروي عند مخالفة التكليف المشكوك ، وهذا لا نظر للآية فيه لا نفيا ولا إثباتا ، فلا يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّ المراد من البراءة التأمين ونفي العقاب في الآخرة لا في الدنيا.
هذا هو الظاهر من الآية بحسب سياقها ومقتضاها ، ولا أقلّ من الإجمال وهو يمنع من تماميّة الاستدلال أيضا.
والجواب على الأوّل : أنّ ظاهر النفي في الآية أنّه هو الطريقة العامّة للشارع التي لا يناسبه غيرها ، كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا معناه عدم الاستحقاق.
والجواب عن الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ ظاهر الآية نفي استحقاق العقاب لا مجرّد الفعليّة فقط ؛ وذلك لأنّ هذا التركيب : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... ) ظاهره أنّه ليس من طريقة الشارع ولا يتناسب وشأنه أن يعذّب الناس قبل إرسال الرسل إليهم ، أي أنّ التعذيب لا يتناسب وشأن الشارع ؛ لأنّه ليس من عادته وطريقته أن يعذّب قبل إرسال الرسل ، وإنّما عادته وطريقته والذي يتناسب وشأنه هو التعذيب بعد إتمام الحجّة وبعث الرسل ، وهذا يدلّ على أنّ الناس لا تستحقّ العقاب قبل البعث ؛ لأنّ استحقاقهم للعذاب والحال هذه يتنافى مع شأن ومسلكيّة الشارع.
ولو فرض أنّ الآية ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لم يكن هذا التعبير صحيحا ؛ لأنّه مع نفي الفعليّة فقط يكون الاستحقاق ثابتا أي أنّهم يستحقّون العذاب ، وهذا معناه أنّ من شأن الشارع ومن المناسب له أن يعذّبهم ولكنّه لم يفعل ذلك تفضّلا منه ورحمة ، وحينئذ ينبغي التعبير عن ذلك بنحو يدلّ على أنّهم يستحقّون وأنّ الشارع عفا عنهم ، وأمّا نفي العذاب بنحو مطلق فهو يدلّ عرفا على نفي العذاب من أساسه ، وأنّه لا يوجد ما يوجب العذاب حتّى يعذّبهم (١).
__________________
(١) وممّا ينبّه على ذلك أنّ أمثال هذا التركيب يدلّ عرفا على نفي الشأنيّة والمناسبة كقولك : ما كنت لأعذّب عبدي على مخالفة فعل لم يصل إليه ، فهذا يدلّ على أنّه لا يستحقّ العذاب على المخالفة مع عدم وصول التكليف إليه لا أنّه يستحقّه إلا أنّ سيّده عفا عنه فقط.