ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثاني ؛ لأنّ النكتة مشتركة ، مضافا إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيويّة ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الأخروي ، إذ وردت في سياق : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى )(١) ، فإنّ هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا.
وأمّا الجواب على الاعتراض الثاني فهو أنّه لا معنى لنفي الشأنيّة والاستحقاق عن الأمم السابقة فقط ، بل هذا اللسان يشمل الأمم السابقة واللاحقة ؛ لأنّ نفي الاستحقاق والشأنيّة إنّما هو بلحاظ الناس جميعا ، ولا معنى لتخصيصه بفئة خاصّة دون أخرى ؛ لأنّ لازمه أنّ الشارع ليس من شأنه أن يعذّب الأمم السابقة ، وإنّما من شأنه أن يعذّب الأمم اللاحقة عند عدم بعث الرسل ، وهذا غير معقول على الشارع ؛ لأنّ طريقة الشارع والمناسب لشأنه إمّا العذاب وإمّا عدم العذاب ولا معنى لفرض طريقتين مختلفتين للشارع ، إحداهما بلحاظ الأمم السابقة والأخرى بلحاظ الأمم اللاحقة ، بل الشارع يعطي قانونا كلّيّا عامّا يشمل كلّ الناس في كلّ زمان ومكان وهو من السنن الإلهيّة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، فالآية تشمل جميع الناس.
والمنفي إن كان العذاب الدنيوي على فرض التسليم بذلك إلا أنّه لا معنى للوقوف عليه ؛ لأنّ عدم الشأنيّة والمناسبة كما ينفي العذاب الدنيوي ينفي العذاب الأخروي أيضا ، إذ لا فرق بينهما ، والنكتة فيهما واحدة وهي أنّ العذاب ليس من شأن المولى سواء كان في الدنيا أم في الآخرة ، هذا أوّلا.
وثانيا : أنّ ظاهر الآية وسياقها يدلّ على نفي العذاب الأخروي لا الدنيوي ؛ وذلك لأنّها وردت في سياق استعراض عدد من القوانين والسنن الإلهية من قبيل :
( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) فإنّها ناظرة إلى أنّه في يوم القيامة والحساب لا تحاسب نفس عن نفس ، ولا تغني إحداهما عن الأخرى ، ولا تعاقب بدلا عنها ، وهذا السياق يتناسب مع العقوبات الأخرويّة لا الدنيويّة ، فيكون قوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) بمقتضى وحدة السياق أنّه لا يعذّب في الآخرة إلا بعد بعث الرسل.
ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله : ( وَما
__________________
(١) فاطر : ١٨.