كُنَّا ) ، وهذا بنكتة إفادة الشأنية والمناسبة ، ولا يتعيّن أن يكون بلحاظ النظر إلى الزمان الماضي خاصّة.
ثمّ إنّ المنشأ لتوهّم أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي ونفيه عن الأمم السابقة هو ورود التعبير بالنفي بصيغة الماضي : ( وما كنّا ) حيث يحمل على الزمان الماضي ، ويقال : إنّه في الماضي لم نعذّب الناس إلا بعد بعث الرسل ، ولذلك حمل نفي العذاب عنهم على العذاب الدنيوي لا الأخروي ؛ لأنّه لم يأت زمانه بعد ، إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ، فإنّ هذا التعبير لا ينبغي حمله على الماضي خاصّة بل يشمل تمام الأزمنة ، وبالتالي يكون ناظرا إلى العذاب الأخروي ؛ لأنّنا قلنا : إنّ هذا التعبير كما هو شأن التعابير العرفيّة ينفي الشأنيّة والمناسبة ، وهذا يعني أنّ هذه الطريقة ليست من شأننا ولا تتناسب مع مقام الشارع ، فهي تفيد قانونا عامّا وكلّيّا يسري على تمام الناس في الماضي والحاضر والمستقبل ، فيكون العذاب المنفي ليس خصوص الدنيوي ، بل لعلّه مختصّ بالأخروي كما تقدّم.
ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة (١) : من أنّ الرسول إنّما يمكن أخذه كمثال لصدور البيان من الشارع لا للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.
والتحقيق أن يقال : إنّه مع ذلك لا يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة ؛ وذلك لأنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف حالة عدم وصوله إلى المكلّف ، لا التأمين عنه عند عدم صدوره من الشارع فقط.
والآية الكريمة ناظرة إلى حالة الصدور فقط ، وتنفي استحقاق العذاب عند عدم صدور التكليف فقط ، وليس فيها نظر إلى حالة صدور التكليف من الشارع مع عدم وصوله إلى المكلّف مع توفّر الدواعي لوصوله ووجود المانع من ذلك ، ويدلّ على ذلك أنّ بعث الرسول يكون لبيان الأحكام فهو مثال لصدور الأحكام من الشارع كالكتاب ، فإذا لم يصدر الحكم من الشارع لا في الكتاب ولا في السنّة تجري البراءة ، وأمّا مع صدوره فيهما وعدم وصول الحكم إلى المكلّف لسبب ما فهذا لا تنظر إليه الآية.
__________________
(١) في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.