على البراءة ، وذلك للفرق بين عدم وجدان النبي وبين عدم وجداننا.
وهو أنّ عدم وجدان النبي للحكم لا مبرّر له إلا عدم صدور البيان بشأنه ؛ إذ لو صدر البيان من الشارع لوصل إلى النبي ؛ لأنّه هو المبلّغ لأحكام الشارع ، فمن البعيد أو من غير المعقول صدوره من الله تعالى وعدم وصوله إلى النبي فيكون عدم وجدان النبي مساوقا لعدم الصدور إن لم نقل بأنّه مساوق لعدم الوجود الواقعي.
إلا أنّ هذا المعنى لا يتحقّق بالنسبة إلينا دائما ؛ لأنّنا قد نشكّ في الحكم نتيجة عدم صدوره ، وأخرى نشكّ به نتيجة عدم وصوله بعد فرض صدوره من الشارع إجمالا ، والاحتمال الثاني هو الغالب في حقّنا ؛ لأنّ أحكام الشريعة تامّة ، فمع عدم وجداننا للحكم لا يعني هذا عدم صدوره ، بل لعلّه صدر من الشارع ولكنّه لم يصلنا لأجل ضياعه أو اختفائه علينا ، فعدم وجداننا أعمّ من عدم الصدور ؛ لأنّه يتلائم مع عدم الوصول أيضا ، بينما عدم وجدان النبي فهو على الأقلّ يتلاءم مع عدم الصدور إن لم نقل مع عدم الوجود الواقعي.
وعليه فلا يتمّ استفادة البراءة ؛ لأنّنا نريد بها التأمين عن الحكم المشكوك عند عدم وصوله أيضا ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.
وثالثا : أنّ إطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصل عملي قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا يرفع اليد عنها إلا بمخصّص واصل.
الاعتراض الثالث : أنّ الآية الكريمة من المحتمل أن تكون ناظرة إلى شيء آخر غير البراءة أو الإباحة الظاهريّة ، وذلك بأن يقال : إنّ الآية تفيد أنّ عمومات ما دلّ على الحلّيّة والإباحة الواقعيّة للمأكولات ولما أخرج من الأرض لا يرفع اليد عنها إلا مع وجود مخصّص قطعي واصل إلى المكلّف ، فيكون العامّ هو الحجّة لإفادة الحلّيّة والإباحة لا البراءة.
فمثلا قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(١) يدلّ على أنّ كلّ شيء مباح وحلال للإنسان إلا ما دلّ عليه الدليل الخاصّ القطعي ، ولا يرفع اليد عن هذا الدليل الاجتهادي لمجرّد الشكّ في المخصّص مع عدم وصوله
__________________
(١) البقرة : ٥٩.