الله تعالى البشر عن معارضته ، أو بأنه هو كون اسلوبه مخالفا لاساليب الكلام ، أو بأنه هو كونه مبرءا عن التناقض ، أو بكونه مشتملا على الاخبار بالغيوب وبما ينخرط في سلك هذا الآراء فقد كذب ابن اخت خالته ، فإنا نقطع أن الاستغراب من سماع القرآن ، إنما هو من اسلوبه ونظمه المؤثر في القلوب تاثيرا لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ثم إنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان الفصاحة ، ومع ذلك فإنه قد بلغ في الفصاحة النهاية ، فدل ذلك على كونه معجزا.
منها : أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات كبعير أو فرس أو جارية ، أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب ، وليس في القرآن من هذه الاشياء مقدار كثير.
ومنها : أنه تعالى راعى طريق الصدق ، وتبرأ عن الكذب ، وقد قيل : إن أحسن الشعر أكذبه ، ولهذا فإن لبيد بن ربيعة وحسان ابن ثابت لما أسلما وتركا سلوك سبيل الكذب والتخييل رك شعرهما.
ومنها : أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في بيت أو بيتين من قصيدة ، والقرآن كله فصيح بكل جزء منه.
ومنها : أن الشاعر الفصيح إذا كرر كلامه لم يكن الثاني في الفصاحة بمنزلة الاول وكل مكرر في القرآن فهو في نهاية الفصاحة ، وغاية الملاحة.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره |
|
هو المسك ما كررته يتضوع(١). |
ومنها : أنه اقتصر على إيجاب العبادات ، وتحريم المنكرات ، والحث على مكارم الاخلاق ، والزهد في الدنيا ، والاقبال على الآخرة ، ولا يخفى ضيق عطن البلاغة في هذه المواد.
ومنها : أنهم قالوا : إن شعر امرئ القيس يحسن في وصف النساء وصفة الخيل ، وشعر النابغة عند الحرب ، وشعر الاعشى عند الطرب ووصف الخمر ، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء ، والقرآن جاء فصيحا في كل فن من فنون الكلام.
ومنها : أن القرآن أصل العلوم كلها ، كعلم الكلام ، وعلم الاصول ، وعلم الفقه
___________________
(١) تضوع ، اى انتشرت رائحته.