إباحة جميع ما يعده العقل طيبا ولا يجد فيه ضررا وخبثا مما يسمى رزقا لبني آدم أي ينتفع به في الأكل أصرح مما تقدم ففهم كون الأشياء على أصل الحلية منها أولى.
أقول على سياق ما قدمنا يكون الحاصل كلوا مما لم يدل دليل شرعي على تحريمه فيما رزقناكم ومكناكم من التصرف فيه أو مما لم يكن فيه جهة قبح واقعي فيرجع إلى الأول لأنه يعلم ذلك ببيان الشارع أو مما لم يكن مضرا بالنفس والبدن أو مما يستلذه الطبع المستقيم ولا يتنفر عنه إما بناء على الغالب من أنه لا يرغب إلى غير ذلك أو بناء على أن سياق الآية مشتمل على الامتنان وعمدة الامتنان به لا بما تتنفر الطباع عنه أو لمرجوحية أكل الخبائث غير المحرمة بناء على أن الأمر للإباحة الصرفة أو لرجحان التصرف في الطيبات وأكلها بناء على أن الأمر للاستحباب.
وبالجملة يشكل الاستدلال بأمثاله على تحريم ما تتنفر عنه عامة الطباع.
وقال الرازي اعلم أن الأكل قد يكون واجبا وذلك عند دفع الضرر وقد يكون مندوبا وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط إذا سوعد فهذا مندوب وقد يكون مباحا إذا خلا عن هذه العوارض والأصل في الشيء أن يكون خاليا عن العوارض فلا جرم كان مسمى الأكل مباحا وإذا كان الأمر كذلك كان الأمر كذلك.
ثم قال احتج الأصحاب أن الرزق قد يكون حراما بقوله « مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ » بأن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالا لكان المعنى كلوا من محللات ما حللنا لكم فيكون تكرارا وهو خلاف الأصل وأجابوا عنه بأن الطيب في اللغة عبارة المستلذ المستطاب ولعل أقواما ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه فأباح الله تعالى ذلك بقوله كلوا من لذائذ ما أحللنا لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى انتهى (١).
__________________
(١) تفسير الرازي.