وهكذا يقال في شأن الزيارة ، فلم يكن موقع القبر هو علّة السفر ، وإنّما علّة السفر هو من فيه ، فهو بهذا خارج أيضاً عن حكم النهي.
ولا يمكن قبول أي تفسير آخر للحديث يحرّم السفر إلىٰ أي مكان غير المساجد الثلاثة بأي قصد كان ، فالسفر في طلب العلم قد يرقىٰ إلىٰ الوجوب الكفائي أحياناً ، وكم شدّ الرحال تابعون كبار في طلب حديث واحد عند رجل في مكان ناءٍ.. والهجرة قد تجب أحياناً ، كما كان في الهجرة من مكة إلىٰ المدينة ، ولقد هاجرت أسرة ابن تيمية نفسه من حرّان إلىٰ دمشق فراراً بحياتهم من المغول.. وهكذا القول مع الجهاد وسدّ الثغور وصلة الرحم ، وإسداء النصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من المقاصد التي حثت عليها الشريعة.
وهذا ما يفسّر ورود الحديث بصيغة أُخرىٰ ليس فيها نهي ولا تخصيص ، فقد جاء في رواية معمر عن الزهري : « تشد الرحال إلىٰ ثلاثة مساجد » أخرجه مسلم (١).
وقد قال بعض العلماء : الصحيح إباحة السفر لزيارة القبور والمشاهد ، وجواز القصر فيه (٢) ، لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً ، وكان يزور القبور ، وقال : « زوروها تذكّركم الآخرة ». وأما قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تُشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد » فيحمل علىٰ نفي الفضيلة ، لا علىٰ التحريم ، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ، ولا يضرّ انتفاؤها (٣).
_________________________________
(١) صحيح مسلم ـ كتاب الحج ـ باب لا تشد الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد.
(٢) اي قصر الصلاة ، إذ لا يجوز القصر في الاَسفار المحرمة.
(٣) المغني / ابن قدامة ٢ : ١٠٣.