يلفّ القرية ، حيث يختفي قرص الشمس الأحمر الكبير وراء الجبال ـ ولطالما تمنّيت أن أقف على إحداها حتّى أطّلع على الشمس وهي مختبئة وراء قريتنا حتّى يحين فجر اليوم اللاّحق كما كنت أظنّ ـ وينشر الغروب رداءه الأحمر فالأسود على قريتنا الوادعة ، فلا تعود تسمع إلاّ نباح الكلاب وأزيز خفافيش اللّيل.
ثلاث سنوات قضيتها في عالم خيالي مملؤة بالبساطة والصفاء ، خرجت بعدها من ذلك العالم الأسطوري إلى جوّ المدينة الصاخب ، حيث يصبح الإنسان أكثر وعياً بالزمن وأكثر اهتماماً بعقارب الساعة.
لقد افتقدت في جوّ المدينة ـ الجديد عليّ ـ دجاجات وكتاكيت زوجة عمّي ، وافتقدت حمارنا الصابر على الأعمال الشاقة والقانع برزقه الخشن وعيشه الجشب ، كما افتقدت تلك الحقول التي كنت أرتع وأمرح فيها. نعم ، افتقدت كلّ ذلك الجوّ ما خلا شيئاً واحداً ، وهي تلك القصص الممتعة التي بقيت محفورة في ذهني ، تلك القصص التي كانت سبباً وأساساً لتبدّل حياتي لاحقاً رأساً على عقب.
دخلت المدينة وسرعان ما خبا ذلك الشوق الذي كنت أحمله تجاهها ، حيث كنت أمنّي النفس بحياة ممتعة لا تفارقها البهجة لكثرة ما في المدينة من أضواء وسينماوات وشوارع وحركة دائمة. خبى ذلك الشوق إلى المدينة منذ وصولي إليها وعادت تلك الأماني عنها سراباً ووهماً كبيراً ، ثمّ عاد لي شوقي وحنيني إلى قريتنا الوادعة المنسيّة والتي تبدو وكأنّها خارج الزمن ، لكني كنت أغتنم تلك الفرص القليلة التي تتوفر لي لزيارتها والوقوف على أطلال ذكرياتي بها.