وغدت أبواب رجاء الحياة وآمالها موصَدة في وجهه ، ورأى بعينيه مَصارع صَحبه وآله مِن جِهة ، ومِن الأُخرى مَصرع العبَّاس (رضوان الله عليه) ، أخيه وذخيرته الوحيدة لنائبات الزمان ، وأيقن بتصميم القوم على مُمانعة الماء عنه ، وعن صِبيَته بكلِّ جَهد وجَدٍّ ؛ حتَّى يُميتوها ويُميتوه عطشاً ؛ فجاهد جهاد الأبطال ، ونَكَّس فُرساناً على رجال ، عندما عاد مِن مَصرع أخيه ، وحال القوم بينه وبين مُخيَّمه ، ولم يُرَ مَكثوراً قط ، قُتِل وِلده ، وإخوانه ، ومَن معه أربط جأشاً ، وأمضى جِناناً مِن الحسين (عليه السّلام) ، وإنَّه كانت الرجال لتَشدُّ عليه ؛ فيَشدُّ عليها ، ثمَّ تَنكشف عنه انكشاف المَعزى إذا شَدَّ عليها الليث ، ويَفرُّون مِن بين يديه ، كأنَّهم الجُراد المُنتشر وهو يقول :
أنا الحسينُ بنُ علي |
|
آليتُ أنْ لا انثني |
فذكَّرهم أيّام أبيه في صِفِّين ، والجَمل ، وردَّدت أندية الأخبار ، ذِكرى الشجاعة الحُسينيَّة ، بكلِّ إعجاب واستغراب ؛ إذ حفَّت بحالته حالات شَذَّ ما يُصادف بطلٌ واحدةً منها ، مِن عَطش مُفرِط ، وحَرَم مُهدَّد ، وافتجاع بجمهور الأحبَّة والأرحام ، وتَفردُّه غريباً بين أُلوف المُقاتلين؛ ولكنَّ شِبل علي (عليه السّلام) ، لم يَحسب لجمهرتهم أيَّ حِساب ، ولم تَبدُ منه في مِثل هذه الحالة الرهيبة العَصيبة ما يُنافي الشرف ، ولا ما يُخالِف الدين ، ولا ما يُحاشي الإنسانيَّة ؛ وهي والله مُعجزِة البشر ، وإنَّها لإحدى الكِبر ، ويُنشد في كَرَّاته :
إذا كانت الأبدانُ للموت أُنشِئتْ |
|
فقتل امرءٍ في الله أولى وأفضل |
ولم يَزل يُدافعهم في مُتَّسع مِن الأرض ، فِئةً بعد فِئة ، حتَّى أدَّت الأفكار والأحوال ، إلى فِكرة حِصاره أثناء الكَرِّ والفَرِّ في دائرة تلال