وعلى حين غُرَّة ، ولم ينزل إلاَّ في مَركز الحُكم ، وأخذ في قبضته المال والسلاح ، ورتَّب في ليلته على الدوائر المُهمَّة مَن لم يَتجاهروا بمَعيَّة مسلم ، وأصبح مُناديه يجمع الناس لخِطابته في الجامع الأعظم ، فرقى المِنبر بكلِّ جَسارة ـ وجَسارة الخطيب تُعطي لكلامه قوَّة نفوذ ، وتأثير على الأوهام ـ فصار يَعِدُ ويوعد ، لا عن لسان الله ورسوله ، بلْ عن لسان أميره يزيد ، فبلَّغهم سلامه ، ولكنَّ الناس لم يردُّوا السلام عليه أوَّلاً ، حتَّى أخذ يُطمِّع المُطيع بمواعيدَ جِسام ، ويُهدِّد مُخالفيه بحَدِّ الحِسام ، والسيف مُصلَت بيده ، فعند ذلك ردَّ السلام عليه نَفر قليل ، ثمَّ أضحى مُناديه يَجمع الرؤساء والعُرفاء إليه ؛ لأخذ المواثيق ، وإنجاز المواعيد ، وتوزيع العطاي ، ومُعاقبة المُتخلِّفين عقوبة صارمَة ؛ فهرع لندائه خَلْق كثير ، وانقلبت القلوب ، وانحرفت الوجوه ، وتبدلَّت لهجات الأندية ، ونشريَّات الشيع.
نعم ، لا ينقضي العَجب ، مِن خَيبة الكوفة في نَهضتها ، إلاَّ بعد التدبُّر في أسبابها وأسرارها ؛ إذ باغت ابن زياد الكوفييِّن بزيِّ الحسين (عليه السّلام) ، حتَّى استقرَّ في دار الإمارة بين حامية مُستعدَّة ، وقد كان الواجب على أهل الكوفة بعدما لبَّى الحسين دعوتهم ، وإرساله مُسلماً وكيلاً عنه ، أنْ تَجتمع أحياؤها ، وتتَّحد رؤساؤه ؛ فيُخرجوا عامل يزيد وحاشيته ، ويُسلّموا دوائرها إلى وكيل الحسين (عليه السّلام) ، أو أنْ يقترحوا عليه مِن الأعمال المُهمَّة ما هم أدرى به وأعرف ، ومسلم لمْ يقَدِم عليهم كوالٍ مُختار ، أو مُفوَّضٍ مُطلَق ؛ ليستقلَّ في أعماله وأعمالهم بالتصرُّف والمسؤليَّة ، وإنَّما بعثه الحسين (عليه السّلام) كمُعتَمد ، يُشرف على أمرهم ، ويستطلع حقيقة خبرهم ،