العقل قد اكتفى عن بيانه اعتمادا على إدراك العقل ، ليكون حكم العقل كاشفا عن حكمه ؛ لاحتمال ألاّ يكون للشارع حكم مولويّ على طبق حكم العقل حينئذ. و «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال» ؛ لأنّ المدار على القطع في المقام.
والجواب : أنّه قد أشرنا في الحاشية (١) إلى ما يفنّد الشقّ الأوّل من هذه الدعوى الثانية ؛ إذ قلنا : الحقّ أنّ معنى استحقاق المدح ليس إلاّ استحقاق الثواب ، ومعنى استحقاق الذمّ ليس إلاّ استحقاق العقاب ، لا أنّهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر ؛ لأنّ حقيقة المدح والمقصود منه هو المجازاة بالخير ، لا المدح باللسان ، وحقيقة الذمّ والمقصود منه هو المجازاة بالشرّ ، لا الذمّ باللسان. وهذا المعنى هو الذي يحكم به العقل ؛ ولذا قال المحقّقون من الفلاسفة : «إنّ مدح الشارع ثوابه ، وذمّه عقابه». (٢) وأرادوا هذا المعنى.
بل بالنسبة إلى الله (تعالى) لا معنى لفرض استحقاق المدح والذمّ اللسانيّين عنده ، بل ليست مجازاته بالخير إلاّ الثواب ، وليست مجازاته بالشرّ إلاّ العقاب.
وأمّا الشقّ الثاني من هذه الدعوى : فالجواب عنه : أنّه لمّا كان المفروض أنّ المدح والذمّ من القضايا المشهورات التي تتطابق عليها آراء العقلاء كافّة فلا بدّ أن يفرض فيه أن يكون صالحا لدعوة كلّ واحد من الناس. ومن هنا نقول : إنّه مع هذا الفرض يستحيل توجيه دعوة مولويّة من الله (تعالى) ثانيا ؛ لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما يصلح للدعوة عند المكلّف إلاّ من باب التأكيد ، ولفت النظر ؛ ولذا ذهبنا هناك إلى أنّ الأوامر الشرعيّة ، الواردة في موارد حكم العقل ـ مثل وجوب الطاعة ونحوها ـ يستحيل فيها أن تكون أوامر تأسيسيّة ـ أي مولويّة ـ بل هي أوامر تأكيديّة ، أي إرشاديّة.
وأمّا : أنّ هذا الإدراك لا يدعو إلاّ الفذّ (٣) من الناس ، فقد يكون صحيحا ، ولكن لا يضرّ في مقصودنا ؛ لأنّه لا نقصد من كون حكم العقل داعيا أنّه داع بالفعل لكلّ أحد ، بل إنّما نقصد ـ وهو النافع لنا ـ أنّه صالح للدعوة. وهذا شأن كلّ داع حتى الأوامر المولويّة ؛ فإنّه
__________________
(١) راجع تعليقته على المتن في الصفحة : ٢٤٥.
(٢) ممّن قال به الحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء : ٣٢١.
(٣) وفي «س» : «إلاّ الأوحديّ».