إياها على الدم ، اتّباع بالمعروف أي مطالبة للدية بمعروف ، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان. ثم بيَّن ذلك فقال : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [البَقَرَة : ١٧٨] لكم يا أمَة محمد وفضل جعله لأولياء الدم منكم (وَرَحْمَةٌ) خصكم بها (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) [البَقَرَة : ١٧٨] أي من سفك دم قاتل وليِّه بعد قبوله الدية (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البَقَرَة : ١٧٨] والمعنى الواضح في قوله (فَمَنْ عُفِيَ (لَهُ) مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي من أُحِلَّ له أخذ الدية بدل أخيه المقتول ، عفواً من الله وفضلاً مع اختياره ، فليطالب بالمعروف و (من) في قوله : (مِنْ أَخِيهِ) معناها البدل. والعرب تقول عَرَضت له من حقّه ثوباً ، أي أعطيته بدل حقّه ثوباً. ومنه قول الله جلّ وعزّ : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزّخرُف : ٦٠] يقول : لو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض والله أعلم.
قلت : وما علمت أحداً أوضح من معنى هذه الآية ما أوضحته ، فتدبّره واقبله بشكر إذا بان لك صوابه.
وأما قول الله جلّ وعزّ في آية ما يجب للمرأة من نصف الصداق إذا طُلِّقَتْ قبل الدخول بها فقال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [البَقَرَة : ٢٣٧] فإن العفو هنا معناه الإفضال بإعطاء ما لا يجب عليك أو تركِ المرأة ما يجب لها ، يقال : عفوت لفلان بمالي إذا أفضلت له فأعطيته وعفوت له عما لي عليه إذا تركته له. وقوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) فعل لجماعة النساء يطلِّقهن أزواجهن قبل أن يمسُوهن مع تسمية الأزواج لهن مهورهنَّ ، فيعفون لأزواجهن ما وجب لهنّ من نصف المهر ويتركنها لهم ، (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الزوج بأن يُتِمّ لها المهر كله ، وإنما وجب عليه نصفه ، وكل واحد من الزوجين عافٍ أي مفضل أما إفضال المرأة فأن تترك للزوج المطلِّق ما وجب لها عليه من نصف المهر. وأما إفضال الزوج فأن يتم لها المهر كملاً ؛ لأن الواجب عليه نصفه ، فتفضّل متبرعاً بالكل وقوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) فعل لجماعة النساء والنون نون فعل جماعة النساء في يفعلُنْ ، ولو كان للرجال لوجب أن يقال إلا أن يعفوا لأن أن ينصب المستقبل ويحذف النون ، وإذا لم يكن مع فعل الرجل ما ينصب أو يجزم قيل : هم يعفون وكان في الأصل يعفوون ، فحذفت إحدى الواوين استثقالاً للجمع بينهما ، فقيل : يعفون فافهمه. وأما فعل النساء فقيل لهن يعفون لأنه على تقدير يفعُلْن.
وقال الفراء في قول الله جلّ وعزّ : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البَقَرَة : ٢١٩] قال : وجه الكلام فيه النصب ، يريد : قل ينفقون العفو ، وهو فضل المال. قال أبو العباس : ومن رفع أراد : الذي ينفقون العفو. قال : وإنما اختار الفراء النصب لأن ماذا عندنا حرف واحد كثُر في كلام العرب ؛ فكأنه قال : ما ينفقون ، ولذلك اختير النصب. قال : ومن جعل ذا بمعنى الذي رفع. وقد يجوز أن يكون ماذا حرفا