مذهب أحمر وحمراء تُرك فيه أفعل منه ؛ كما ترك في كثير. قال : وقد تَلْقى بعض النحويين يقول : أُجيزه في الأعمى والأعشى والأعرج والأزرق ؛ لأنا قد نقول : عَمِيَ وزَرِق وعَرِج وعشِي. ولا نقول حَمِر ولا بَيِض ولا صَفِرَ ، قال الفراء : وليس ذلك بشيء ، إنما يُنظر في هذا إلى ما كان لصاحبه فيه فِعْل يقلّ أو يكثر ، فيكون أفعل دليلاً على قِلَّة الشيء وكثرته ؛ ألا ترى أنك تقول : فلان أقوم من فلان ، وأجمل ؛ لأن قيام ذا يزيد على قيام ذا ، وجماله يزيد على جماله ، ولا تقول للأعميين : هذا أعمى من ذا ، ولا لميّتين : هذا أموت من ذا. فإن جاء منه شيء في شعر فهو شاذّ ؛ كقوله :
أمّا الملوك فأنت اليوم الأمُهم |
لؤماً وأبيضهم سِرْبالَ طبّاخ |
ويقال : رجل عَمٍ إذا كان أعمى القلب ، وقال الفراء في قول الله جلّ وعزّ : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فُصّلَت : ٤٤] قرأها ابن عباس : عَمٍ ، وقال أبو مُعَاذ النحوي : من قرأ (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) فهو مصدر يقال : هذا الأمر عَمًى ، وهذه الأمور عَمًى ؛ لأنه مصدر ، كقولك : هذه الأمور شُبْهة ورِيبة ، قال : ومن قرأ عمٍ ؛ فهو نعت ؛ نقول : أمر عمٍ وأمور عَمِيَة ، ورجل عمٍ في أمره : لا يبصره ، ورجل أعمى في البصر. وقال الكميت :
* ألا هل عَمٍ في رأيه متأمِّل*
ومثله قول زهير :
*ولكنني من علم ما في غد عم*
وفي حديث أبي رَزِين العُقَيليّ أنه قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟
قال : في عَمَاء ، تحته هَوَاء وفوقه هواء.
قال أبو عبيد : العَمَاء في كلام العرب : السحاب ، قاله الأصمعي وغيره وهو محدود. وقال الحارث بن حِلِّزةَ :
وكأنَّ المنون تَردْى بنا أصْ |
حَمَ عُصْم ينجاب عنه العماءُ |
يقول : هو في ارتفاعه قد بلغ السحاب ، فالسحاب ينجاب عنه أي ينكشف. قال أبو عبيد : وإنما تأوّلنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم ، ولا ندري كيف كان ذاك العَمَاء. قال : وأمَّا العمى في البصر فمقصور ، وليس هو من هذا الحديث في شيء.
قلت : وقد بلغني عن أبي الهيثم ـ وَلم يعزه لي إليه ثقة ـ أنه قال في تفسير هذا الحديث. ولفظه : إنه كان في عمى مقصور. قال وكلّ أمر لا تدركه القلوب بالعقول فهو عَمًى. قال : والمعنى : أنه كان حيث لا يُدركه عقول بني آدم ، ولا يَبلغ كنههَ وصف.
قلت أنا : والقول عندي ما قاله أبو عُبيد أنه العماء ممدود ، وهو السحاب ولا يُدرى كيف ذلك العَمَاء بصفة تحصُره ولا نعتٍ يَحدّه. ويُقَوِّي هذا القول قول الله جلّ وعزّ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البَقَرَة : ٢١٠] فالغمام معروف في كلام العرب ، إلّا أنا لا ندري