وأعتزل بالجارية في محمل ، وأطرح على المحمل أعبية (١) من أعبية الجمّالين ، وأجلس أنا وهي تحت ظلها ، ثم أخرج شيئا آكله ، وتتغنى حتى نرحل ، فلم نزل كذلك حتى قربنا من الشام ، فبينا أنا ذات يوم نازل وأنا ألقي عليها لحني (٢) :
وإني لآتي البيت ما إن أحبّه |
|
وأكثر هجر البيت وهو حبيب |
وأغضي على أشياء منكم تسوؤني |
|
وأدعى إلى ما سرّكم فأجيب |
قال : ولم أزل أردده عليها حتى أخذته واندفعت تغنيه ، فإذا أنا براكب قد طلع علينا فسلّم علينا فرددنا عليهالسلام ، فقال لنا : أتأذنون لي أن أنزل تحت ظلكم هذا ساعة؟ قلنا : نعم ، فنزل وعرضت عليه الطعام فأجاب فقدمت إليه السفرة فأكل واستعاد الصوت مرارا ، ثم قال للجارية : أتروين (٣) لدحمان شيئا من غنائه؟ قالت : نعم ، قال : فغنني صوتا ، فغنته أصواتا من صنعتي وغمزتها ألّا تعرفيه أني دحمان ، فطرب وامتلأ سرورا والجارية تغنيه حتى قرب وقت الرحيل فأقبل عليّ وقال : أتبيعني هذه الجارية؟ قلت : نعم ، قال : بكم؟ قلت كالعابث : بعشرة آلاف دينار ، قال : قد أخذتها ، فهلمّ دواة وقرطاسا فجئته بذلك ، فكتب فيه : «ادفع إلى حامل هذا الكتاب ساعة تقرأه عشرة آلاف دينار ، وتسلّم منه الجارية ، واستعلم مكانه وعرفنيه ، واستوص به خيرا». وختم الكتاب ودفعه إليّ وقال : إذا دخلت المدينة فسل عن فلان ، فاقبض منه المال وسلّم إليه الجارية (٤) ، ثم ركب وتركني فلما أصبحنا رحلنا ودخلنا المدينة فحططت رحلي وقلت للجارية : البسي ثيابك وقومي معي ـ وأنا والله لا أطمع في ذلك ، ولا أظن الرجل إلّا عابثا ـ فقامت معي فخرجت بها وسألت عن الرجل فدللت عليه ، وإذا هو وكيل الوليد بن يزيد ، فأتيته فأوصلت إليه الكتاب. فلما قرأ وثب قائما وقبّله ووضعه على عينه ، وقال : السمع والطاعة لأمير المؤمنين ، ثم دعا بعشرة آلاف دينار فسلّمت إليّ وأنا لا أصدق أنها لي ، وقال لي : أقم حتى أعلم أمير المؤمنين خبرك ، فقلت له : حيث كنت
__________________
(١) جمع عباء ، وهو ضرب من الأكسية.
(٢) هنا في الأغاني ذكر بيتين غيرهما. وقد ورد هذان البيتان في الأغاني بعد الخبر بصفحات ٦ / ٣١ وهما للأحوص.
(٣) الأغاني : أتغنين.
(٤) في رواية الأغاني أنه دفع إليه الجارية فور اتفاقهما ، وسأله دفع الكتاب إلى فلان المرسل إليه ويقبض منه المال.