إذا بقي لنا أمر بعد ذلك ، فحرام عليكم طعامكم وشرابكم ، وحرام عليكم أن تقيموا على الضيم في وطنكم ، وأن تجلسوا في هذا المكان باسم الإسلام والفرنسيون يصنعون بإسلامكم ما شاءوا أن يصنعوا.
قال قائل منهم : وما ذا في طاقتنا أن نصنع إزاء حرب الفرنسيين. وقد حرمنا نعمة البصر فما ندري إلى أين نسير ، والله يقول : «ليس على الأعمى حرج».
ولم يكد الطالب بتم قولته حتى انفجر الشيخ كالبركان قائلا : ألا لعنة الله عليكم إن كان هذا هو مدى إدراككم ويقينكم ، نعم لا حرج عليكم فيما هو من شئونكم الخاصة ، ولكنكم اليوم إزاء كارثة حلت بدار الإسلام ، وإنها لآخذة برقابكم جميعا ، والله يقول : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، فانفروا إلى الناس في دورهم ، وحيث هم في أعمالهم ، وتفرقوا على أبواب الطرق والحارات ، وقولوا لكل من لقيتم إنكم اليوم بين شقي الرحى ، وإن الفرنسيين قد استباحوا حرماتكم ، وأهانوا شرفكم ، ونهبوا أموالكم ، وبدلوا دينكم ، فلا عزة لكم بين الأمم ، ولا كرامة لكم عند ربكم إذا ما رضيتم بهذا الأمر فيكم.
ووقف الشيخ في انفعال وقوة ، وأخذ يصرخ قائلا والدموع تنحدر على خديه : والله ما قام عمود هذا الدين إلا بالجهاد ، ولا أزهرت شجرة الإسلام إلا بدماء الشهداء ، ولقد خاض رسول الله الحرب حتى شج وجهه وكسرت رباعيته ، وفي سبيل الله استشهد سادتنا من الصحابة والتابعين ، فلعنة الله علينا إن كنا من القاعدين بعد اليوم .. ثم اندفع الشيخ واندفع معه طلابه إلى الخارج وهم يصيحون : إلى الجهاد والاستشهاد ، إلى الموت في سبيل الله .. وكانت الثورة.
* * *
كانت الشمس ترتفع للضحى ، وكانت القاهرة تبدو هامدة واجمة