تحت وطأة ذلك الكابوس الفرنسي الذي جثم على قلبها فجأة ، وكان الناس يغدون ويروحون وهم لا يدرون من أمرهم شيئا لليوم أو الغد ، فما هي إلا ساعات من نهار حتى كانت القاهرة تغلي كالمرجل ، وكان الناس يقفون فيها على قدم وساق متوثبين متحفزين لأمر له ما بعده ، فقد تفرق شيوخ الأزهر وطلابه على أبواب الطرق ، وتغلغلوا في الحارات والأزقة بحي الأزهر والحسينية ، وراحوا يتحدثون إلى الناس بشأن هؤلاء الفرنسيين الذين استعمروا بلادهم ونهبوا أموالهم ، واسباحوا حرماتهم ، وأخذوا يذكرونهم بحق الدين في الجهاد والاستشهاد ، وكأنها كانت الشرارة قد اندلعت في الهشيم ، فإذا بالجموع تتداعى من كل ناحية ، والصيحات ترتفع من كل جانب : إلى الجهاد ، إلى الاستشهاد ، النصر للإسلام.
واتصل الخبر بالسلطات الفرنسية ، فركب الضابط «ديوي» على رأس قوة كبيرة من الفرسان والجنود ، ومر بشارع الغورية ، وعطف على خط الصنادقية ، ثم قصد إلى بيت القاضي فوجد جموعا كبيرة من المصريين وهم يصيحون ويتوعدون ، فتراجع أمامهم وأراد أن يخرج من بين القصرين ، ولكنهم أدركوه والتحموا به في معركة عنيفة أسفرت عن جرح «ديوي» بجراح بالغة وقتل أكثر فرسانه وجنوده ، ولم يفلت القائد الفرنسي من براثنهم إلا بأعجوبة ... وأيقن أبناء القاهرة أن هذه المعركة ليست إلا بداية موقف حاسم بينهم وبين الفرنسيين ، وأخذوا من وقتهم يستعدون لهذا الموقف ، فرابطت الجموع عند الأطراف وعلى مداخل القاهرة عند باب الفتوح وباب النصر والبرقية وباب زويلة وباب الشعرية ، وأقاموا المتاريس في كل مكان مفتوح للهجوم ، وأخرجوا ما عندهم من السلاح والذخيرة ، وباتوا الليل ساهرين منتظرين.
وأصبح الصباح ، وكانت القوات الفرنسية قد أخذت أماكنها فوق تلال البرقية والقلعة ، وهي مستعدة بالعتاد الكامل ، والمدافع الثقيلة ، ثم أخذت تقصف القاهرة بالقنابل وركزت الضرب على حي الأزهر بصفة خاصة ،