وتساقطت القنابل على الدور وفوق السكان ، ولم يكن دوي القنابل مألوفا لعامة الشعب ، فسار بينهم الفزع والرعب ، ولكن المرابطين على المتاريس وقفوا ثابتين يدافعون في شجاعة وعناد ، وأمضت القاهرة ليلة مظلمة لم تعهدها من قبل ، فكنت لا تسمع في وسط ذلك الظلام الخانق الرهيب ، إلا دوي القنابل وهي تتساقط في كل مكان ، وإلا صيحات المجاهدين والمدافعين وهي تتجاوب بالثبات والإقدام ، وطال الترقب ، والفريقان يتبادلان الرمي والضرب ، وأرسل الفرنسيون إلى شيوخ الأزهر أكثر من مرة لعلهم يتدخلون لتهدئة الثورة ، ولكن المواطنين أصروا على الكفاح إلى آخر رمق من حياتهم.
واستمرت المعركة دائرة يومين وليلة وتساقط القتلى من الجانبين في الشوارع والطرقات وتهدمت الدور في كثير من المواقع ، وبقي المواطنون في أماكنهم صامدين ، يناضلون ويدافعون حتى فقدت الذخيرة منهم ، فوقفوا عن الضرب والرمي ، وانفتحت الأبواب أمام الفرنسيين ، فانحدروا إلى القاهرة بخيلهم ورجلهم وهم يمعنون في الأهالي العزل قتلا وفتكا ، وعاثوا في حي الأزهر جميعه ، ثم اقتحموا الجامع الأزهر بخيولهم ، واستباح أولئك الذين جاءوا يبشرون في الشرق بمبادىء الثورة الفرنسية ذلك الحرم المقدس ، فربطوا فيه خيولهم ، وشربوا فيه الخمور ، وعاثوا بكل ما فيه من المصاحف والكتب والخزائن فسادا وتلفا وداسوها بنعالهم.
وأصبح الصباح في اليوم التالي ، وكانت القوات الفرنسية كلها قد تجمعت في حي الأزهر وفي جميع الأحياء التي عضدت الثورة ، وأخذوا ينهبون الدور ويبحثون عن السلاح في كل مكان ، ثم أخذوا يبحثون عن الشيوخ الذين تزعموا الثورة واعتقلوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان ، والشيخ أحمد الشرقاوي ، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي ، والشيخ يوسف المصيلحي ، والشيخ إسماعيل البراوي ، وحبسوهم في بيت البكري