يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون آخر ، فإذا خلا المجتمع بعد أجل طويل أو قصير فهل يخلف من بعدهم خلف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟
الجواب عن هذا السؤال عند الأزهر وحده ؛ فهو بحكم طبيعته وعلة وجوده معتصم اللغة ومنجاها في الماضي والمستقبل ، أما المعاهد الأخرى فكل شيء فيها يبعث على التشاؤم : منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد ، وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان العام بأية وسيلة ، فالمطولات تختصر ، والمختصرات تختزل ، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة. ذلكم إلى زهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد النشء عن تعمق الأصول وتقصى الفروع ، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة أو من شهادة إلى شهادة ، فإذا ما تخرج الناشىء بهذا الحظ المنكود من اللغة وكان في نفسه ميل إلى الأدب ، وفي طبعه استعداد للكتابة ، انصرف عن كنوز الأدب العربي ، لأن مفاتيحها ليست عنده ، وأقبل على روائع الأدب الغربي يحاكيها ويستوحيها حتى إذا امتلأ ذهنه وفاض شعوره وأراد أن ينتج شيئا يفيد الناس وجد في نفسه الملكة التي تخلق وفي حسه الصورة التي تمتع ، ولكنه لا يجد في لسانه اللغة التي تعبر ، ولا في قلبه الأسلوب الذي يؤثر ، فيضيق ويسخط ويثور ، ويزعم أن قواعد اللغة غصة لا تساغ ، وأن إعراب الكلمة عقبة لا تذلل ، ثم يتطرف فيدعو إلى إطلاق الحرية للكاتب فيكتب كما يشاء.
تلك حال المتخرج الأديب بطبعه أما المتخرج العادي فإنه يعود أميا كما بدأ ، لا يقرأ إذا قرأ إلا السهل ، ولا يطلب هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور ، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة ، حتى نشأ من إفراط القراء في هذا الطلب ، إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ