الذي لا ينفع ، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع ، ذلكم إلى طغيان الأدب الأوروبي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول النائين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة ففتنتهم عن أدبهم وصرفتهم عن تاريخهم ، فالمتفرنسون منهم يعرفون هوجو ولا يعرفون المتنبي ، ويدرسون فولتير ولا يدرسون الجاحظ ، ويقرءون لا مرتين ولا يقرءون البديع ، ومن هنا نشأت هذه التبعية التي فرضها الشباب على أدبنا لأدب الغرب ، فأساليبهم الكتابية اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب ، ومذاهبهم الأدبية هي مذاهب الأدب في الغرب ، ومقاييسهم النقدية هي مقاييس النقد في الغرب ، حتى الرمزية وهي بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان المغمغم يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح ، وحتى الوجودة وهي بنت الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة ، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته من سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل ، ولا يتحداها وهو مؤمن.
ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم ، الأدب للنفس والعلم للناس ، الأدب مواطن والعلم لا وطن له ؛ الأدب روح في الجسد ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلا بنفسه ، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزا بأفراده ، الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد. والعلم شيء غير أولئك كله ، فإذا جاز طبعا أن نأخذ من غيرنا ما يكمل نقصنا من العلم ، فلا يجوز قطعا أن نأخذ من هذا الغير ما يمثل أنفسنا من الأدب.
إن دراسة العربية على النهج الصحيح المنتج بعد المدرسة لا يكلف المتأدبين من الجهد والزمن أكثر مما تكلفهم دراسة الفرنسية والإنجليزية : ولكنهم في عصر السرعة يطلبون القريب ويتوخون السهل ويتخطفون العلم ويتعجلون الإنتاج ، ثم يحقدون على من يلزمونهم التأني ويجشمونهم الدرس ويقولون لهم إن أحدا لا يعرف في تاريخ الآداب القديمة والحديثة