المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها ، وقد تنبه مجمع اللغة العربية لهذا الخطر فقرر فيما قرر استجابة لاقتراح عرضته ، فتح باب الوضع اللغوي للمحدثين بوسائله المعروفة من الاشتقاق والتجوز والارتجال ، وإطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس. وتحرير السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالبنائين والنجارين وغيرهم من أرباب الحرف والصناعات ، واعتماد الألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ القديمة ، وعلى هذه المبادىء وغيرها وضع معجمه الوسيط الذي سيظهر قريبا.
أما الاجتهاد في الدين فقد فتحت أبوابه أول الأمر لمن تجهز بجهازه واعتد له بعدته ، حتى إذا زخر الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه مدى عصوره بالآراء المحكمة والوجوه المحيطة ، وجد فيه المسلمون جوابا شافيا عن كل سؤال يخطر على الذهن ، وحلا جامعا لكل إشكال يعرض في المجتمع ، وحكما عادلا في كل قضية ترفع إلى القضاء ، فاستغنوا بغزارته وإحاطته عن الاجتهاد فيه ، وانصرفوا إلى اجتهاد من نوع آخر هو الاجتهاد في اختيار الرأي المناسب ، وترجيح الحكم الموفق. جاء في كتاب الولاة والقضاة للكندي أن قاضيا شافعي المذهب كان بمصر في عصر الإمام الطحاوي وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه يحقق العدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب من المذاهب ، وكان مرضي الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه ولا في خلقه ولا في حكمه ، سأل هذا القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقائع فقال الطحاوي : أتسألني عن رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي : ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي ظننتك تحسبني مقلدا فقال القاضي : لا يقلد إلا عصبي أو غبي. هذه الثروة الفقهية الضخمة لم يحجبها عن الناس إلا أسلوب التأليف القديم ، واليوم وقد تطورت المدينة وتغيرت العقلية ينبغي أن يطابق التعليم والكتاب مقتضيات العصر. هذه هي المحنة الثالثة التي تعانيها اللغة العربية اليوم.